عقيدة اليأس: كيف تصدّر الأنظمة العربية خطاباتها السياسية لشعوبها المقهورة ؟

Saudi summit

خرج اعبد الفتاح السيسي في أكتوبر/تشرين الأول 2019 في إحدى ندوات القوات المسلحة ليقول بوضوح: “إن الأزمة في سوريا وانتهاك السيادة فيها والتراجع الحاصل في الأمن والاقتصاد تسبب بها أهلها”.

لم يكن هذا التصريح تعليقًا عابرًا على الشأن السوري بل كان خطابًا موجهًا إلى الداخل المصري وهدفه الأساس كان بث الخوف من فكرة انتقاد الدولة أو المطالبة بالمزيد منها كما لم يكن هذا الطرح خاصًا بالسيسي بل يمكن اعتباره خطابًا منهجيًا يتكرر على ألسنة مسؤولي الدولة ووسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية.

إنه خطاب يُمكن تسميته بـ”عقيدة اللا أمل” وهي إستراتيجية تتبناها أنظمة عربية متعددة لإقناع شعوبها بأن الفشل قدرٌ محتوم وأن أي بديل سيكون أشد دمارًا وأن الطموح ترف لا وقت له.

تقوم هذه العقيدة على ثلاث رسائل رئيسية:

  • نحن نحميكم من الفوضى
  • البدائل أخطر من الواقع وتحمّلوا…
  • فالخطر قائم ومتصاعد لكن خلف هذه الرسائل تتخفى رواية أعمق: لقد أصبح الفشل مشروعًا سياسيًا بحد ذاته ولم يعد الإخفاق نتيجة عرضية لسوء التخطيط أو ضعف الإدارة بل تحول إلى نهج ممنهج، يُبرَّر، ويُعاد إنتاجه ويُحتفى به أحيانًا بوصفه “أقلّ الشرور”.

إذ لا يُراد في عقل النظام السلطوي فقط إسكات الشعوب بل إعادة برمجة وعيها لتكفّ عن طرح الأسئلة من الأساس والنتيجة النهائية لهذا النهج هي حالة من القبول البارد تجاه أي محاولة للتغيير وتراجع سقف المطالب الشعبية إلى أدنى حد ممكن لتقتصر على كسرة خبز وفسحة أمان والتخلّص من شعور المطاردة أو الاستهداف أو التشويه.

كيف تقنع الأنظمة العربية شعوبها بهذا النهج؟

أولًا: “انظروا إلى العراق وليبيا!”

استحضار الحالة العراقية والسورية والليبية، خلال فترات الحرب والانهيار يُعد من أكثر الأدوات استخدامًا في خطاب الأنظمة العربية إذ تُكرّره وسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية المستندة في أدائها إلى توجيهات الرؤساء بهدف ترسيخ فكرة أن مجرد وجود مؤسسات الدولة رغم الفساد والفشل والتقصير، هو نعمة يجب الحفاظ عليها وبمعنى آخر: لا ترفعوا سقف مطالبكم ولا تعترضوا ناهيك عن الدعوة إلى تغيير جذري.

السيسي عبّر عن ذلك بوضوح حين قال في إحدى جلسات “منتدى شباب العالم” عام 2018: “إن التكلفة التي تحملتها المجتمعات الساعية للتغيير في عام 2011 تفوق بكثير تكلفة بقاء الأوضاع على ما كانت عليه.”

وفي الجزائر تُستدعى العشرية السوداء (التي شهدت موجة عنف دموي في تسعينيات القرن الماضي) كلما ارتفعت الأصوات المطالِبة بالتغيير ففي خلال الحراك الشعبي عام 2021 قال الرئيس عبد المجيد تبون صراحة إن البلاد تواجه “أعمالًا تحريضية وانحرافات خطيرة من قبل أوساط انفصالية وحركات غير شرعية ذات مرجعية قريبة من الإرهاب تستغل المسيرات”.

بهذا يصبح الخوف من المصير السوري أو الليبي أو الجزائري القديم أداة ترويض فعالة، تُقدَّم كحقيقة لا جدال فيها: “التغيير خطير والأمن قبل الكرامة والفوضى أقرب مما تظن”.

ثانيًا: “أهل الشر يتآمرون”… لا وقت للإصلاح

هناك دائمًا مؤامرة تُحاك ضد البلد وعليه، ولا وقت الآن للمطالبة بزيادة الأجور، أو تحسين الكهرباء، أو العدالة الاجتماعية، فهذه المطالب، وفق خطاب السلطة، ترفٌ لا يناسب المرحلة، ولا يجوز طرحه في ظل “الخطر الداهم” الذي يستهدف المسيرة التنموية، أو على الأقل، هذا ما يراه الرئيس تبون، حتى حين خرج طلاب في مظاهرات سلمية في الجزائر!

هكذا يتحوّل الأمن إلى الغاية النهائية التي لا يعلو عليها شيء. إذ يُصوَّر الوضع وكأن هناك قوى خفية تعمل في الظل على زعزعة الاستقرار.،وهذا الخطاب لا يُستخدم فقط لتخدير الشعوب وتقييدها بل يمنح أيضًا الذريعة لأجهزة الأمن للتصرف بلا قيود واعتقال من تشاء دون أوامر قبض أو تحقيقات أو إجراءات قضائية سليمة.

في مصر لا يتوقف عبد الفتاح السيسي عن التلويح المستمر بوجود مؤامرة تستهدف البلاد إذ يقول في إحدى خطاباته: “أقول للمصريين: إوعوا… إوعوا الاستقرار والأمن اللي انتوا شايفينه ينسيكو إن فيه تحديات مستمرة… ولازم نكون فاكرين ومش هننسى إن المؤامرة دي على الأقل من أهل الشر… وأنا ما بسمّيش حد، مش إخفاءً، لكن دا سلوك أنا بتعامل بيه… أهل الشر لازالوا يعملون وسيعملون ضد مصر”.

وهكذا، حتى في أوقات الاستقرار السياسي والأمني لا بد من التلويح من حين لآخر بـ”المؤامرة” التي لا تنام والتي “يحوكها الجميع” وهي أحاديث تزرع الرهبة والخوف في وعي المواطن فذاك الذي يُغذّى صباح مساء بخطاب المؤامرة سيتردد مئة مرة قبل أن يفكر بالخروج إلى الشارع أو يطالب بحقوقه لأنه ببساطة قد يُصنَّف عندها كجزء من “المؤامرة” نفسها المؤامرة التي لا يعلم تفاصيلها إلا القادة وحدهم!

ثالثًا: شيطنة المعارضين… الحُلم خيانة!

تستخدم الأنظمة العربية هذه الاستراتيجية لتبرير قمع كل من يخرج عن النص سواء بالاعتقال أو التصفية أو الإبعاد أو تكميم الأفواه ولا فرق إن كان المستهدف شخصًا أو جماعة أو حركة أو حتى فكرة فمطالب الناس وحقوقهم غالبًا ما تجد من يمثلها أفرادًا أو منظمات أو رموزًا وهكذا يُصبح ضرب هذه الكيانات وسيلةً فعّالة لإجهاض أي محاولة للمعارضة أو التغيير.

خذ مثلًا الإسلام السياسي ورموزه لقد تحوّل هذا العنوان بذاته إلى تهمة فالإعلام العربي الرسمي وشبه الرسمي روّج دومًا لفكرة أن صعود الإسلاميين يعني الفوضى دون الالتفات إلى أن ما شهدته تلك الدول من انهيار سببه الحقيقي كان الطغيان والاستبداد… لا الثورة عليه.

هذا التشويه المتعمّد يتجاوز الحدود ويمتد عبر المنصات الإعلامية الإقليمية والدولية ففي فترة صعود الحركات الإسلامية بعد الربيع العربي جرت محاولات حثيثة لربطها بالإرهاب والقمع ولعلّ حادثة اغتيال شكري بلعيد في تونس من أبرز الأمثلة إذ سُرعان ما رُبطت بالنهضة والغنوشي رغم غياب أي دليل يُثبت صلتهم بها حتى اليوم.

في مصر عقب انقلاب 30 يونيو شُنت حملة منهجية منظمة ضد جماعة الإخوان المسلمين بهدف شيطنتهم وتبرير تصفيتهم سياسيًا وجسديًا سواء عبر القانون أو خارجه وكان لهذا النهج دور محوري في ترسيخ أركان الانقلاب وإضفاء شرعية عليه.

يرى الكاتب والباحث السعودي مهنا الحبيل أن الغاية من هذا النهج هو تشريع التصفية الجماعية بحق تيار فكري وسياسي بأكمله.

ويقول: “القانون الذي أصدرته السلطات المصرية باعتبار جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية دون أدلة على مسؤولية في أي عنف مسلح كان هدفه شرعنة تصفية المخالفين لهذا التحالف المكون من السيسي وقوى الثورة المضادة والتيار الخليجي. إنه قانون اللّاقانون ويمكن أن يُستخدم لاحقًا لتصفية أي معارض آخر ولو بتهمة مختلفة”.

أما التهمة الأوسع انتشارًا والأكثر مرونة وفعالية في القمع فهي: “الإرهاب” التهمة “الجوكر” في يد الأنظمة، تُستخدم لتصفية الخصوم وقد تبناها النظام الدولي وتغاضى عن تبعاتها دون الحاجة لأي تحقيق أو حتى تعريف واضح لها.

تحت هذا الغطاء فُتح بابٌ واسع لاعتقال أي ناشط أو معترض أو داعية أو كاتب أو مواطن بسيط لمجرد المطالبة بحقوقه الأساسية:

تحسين الكهرباء محاربة الفساد رفع الأجور… أو حتى مجرد التعبير عن الرأي. وفي بعض الدول الشك وحده كفيل بأن يوصم المرء بالإرهاب ويقضي سنين في السجن دون محاكمة.

يمكن اعتبار العراق من أكثر الدول تطرفًا في تبنّي هذا النهج حيث استُخدم اتهام الإرهاب كأداة للإقصاء والتخويف والتصفية،ليس فقط ضد المعارضين بل أحيانًا حتى ضد الحلفاء فمنذ ما بعد 2003 بدأت حملة تخويف واسعة ضد مكوّنات معينة في البلاد، رافقها سلسلة اعتقالات عشوائية بينما كانت عمليات الفساد والنهب تجري بوتيرة سريعة ما أدى إلى اختفاء نحو 400 مليار دولار من خزينة الدولة خلال سنوات دون أن يُحاسَب أحد أو يُسأل أحد فـ”الإرهاب على الأبواب دائمًا”.

وفي دول مثل الخليج ومصر وسوريا ولبنان والأردن، تكرّرت مشاهد الاعتقال والسجن بتهم فضفاضة طالت ناشطين ومفكرين ومثقفين بل حتى دعاة وكتّابًا دون أن تكون هناك جريمة حقيقية تستدعي ذلك.

رابعًا: وليُّ الأمر… “الصبر المقدس”… وأشياء أخرى!

في إحدى برامجه التلفزيونية خرج الشيخ خالد الجندي وهو من بين المشايخ الذين أُتيحت لهم مساحة واسعة في الإعلام المصري ليتحدث عن طاعة ولي الأمر وصلاحياته في الشريعة الإسلامية كما يراها إذ قال الجندي إن ولي الأمر يملك حق تقييد المباح بل وقد يمتد ذلك إلى تقييد السنّة معتبرًا أن طاعته تصل إلى منزلة “الفرائض العليا” في الإسلام.

هذا الطرح ليس عابرًا بل يحمل وراءه خطابًا ممنهجًا يُمثّل النسخة الرسمية من الدين التي ترغب الأنظمة في تكريسها بين الناس فإذا كان لا مفر من حضور الدين في الحياة العامة فلا بد أن يكون تحت وصاية الدولة حيث يُقدَّم الحاكم كـ”ولي أمر” له صلاحيات مطلقة ويُمنح حق تحديد ما هو الأصلح للبلد، بل وما هو الشرعي وما ليس كذلك,

في السعودية مثلًا أخذ الشيخ عبد العزيز الريس هذا المفهوم إلى مستوى أبعد حين قال إن طاعة ولي الأمر واجبة حتى لو زنى وشرب الخمر على مرأى الناس!

تعجّ القنوات الرسمية والمنصات الممولة بمثل هؤلاء “المشايخ” لأن الدين هو المحفّز الأكبر للتغيير في المجتمعات العربية ولذلك فإن هذه الثغرة يجب أن تُغلق يُبرز النظام مشايخ ويُخفي آخرين، يُزج بجماعات في السجون وتُلمَّع جماعات أخرى، وكل ذلك لخدمة معادلة واحدة: “ولي الأمر… خط أحمر”.

وليس بعيدًا عن هذه “المعادلة الدينية” هناك مفاهيم مثل الصبر والصمود والتحمّل انتظارًا للأجر والثواب وهي مفردات تجد لها حيزًا واسعًا في الإعلام العربي الرسمي، وكأن الدين جاء لتخدير الناس لا لتحفيزهم على المقاومة والتغيير، وكأن المطلوب هو الصبر لا النهوض!

أما الوسيلة الأخرى المفضّلة للأنظمة فهي: الإلهاء، وهذا فنٌ تتقنه الأنظمة العربية ببراعة ويتكرر في كل مناسبة. تنظيم بطولة كروية؟ إنجاز قومي يُحتفى به في مصر. تبليط بضعة شوارع؟ منجز حكومي ضخم في العراق رغم الفساد المستشري. وتطبل وسائل الإعلام لهذه “الإنجازات” بوصفها أدلة على “التقدم”.

وعلى صعيد الإعلام الجديد تشهد وسائل التواصل الاجتماعي حملات “وطنية” تظهر بين الحين والآخر، وتختلف في الشكل من بلد إلى آخر لكنها تتفق في الجوهر: “بلدنا أحسن بلد… نحن أفضل مجتمع”.

قد تأخذ هذه الحملات طابعًا تاريخيًا في دول مثل العراق ومصر وسوريا: “مهد الحضارات.” أو دينيًا في السعودية: “قبلة المسلمين.” أو سياسيًا وتحرريًا في الجزائر: “بلد المليون شهيد.”

الفكرة الجوهرية واحدة: رفع الروح المعنوية لمواطن يعيش في واقع متردٍ بتغذية شعور الفخر بالماضي أو التعلق بمشهد في الحاضر بدل أن يُدرك كم ضاعت من موارده وطاقاته وكان يمكن أن تجعله في مصاف الدول المتقدمة.

تفكيك خطاب اللا أمل: ألمانيا واليابان بدل ليبيا والعراق !

الخطاب الذي يُشيَّد فوق أنقاض الأمل ليس مجرد سردية عابرة، بل مشروع سلطوي مدروس يعيد تشكيل علاقة المواطن بالزمن والتاريخ والسياسة. ولتفكيك هذا الخطاب لا يكفي رفضه أخلاقيًا، بل ينبغي كشف بنيته وآلياته وتعريته من الداخل.

أول خطوة في مقاومة عقيدة اللا أمل هي تفكيك لغتها فالأنظمة تتحدث دائمًا بلغة الضرورة والكارثة: “نحن على حافة الهاوية” “الخطر محدق” “المؤامرة مستمرة”.

هذه اللغة لا تفسر الواقع بل تجمّده وتقطع الصلة بين الحاضر والمستقبل وتُعيد تدوير الخوف بدل صناعة الأمل. تفكيكها يتطلب استعادة لغة أخرى: لغة الإمكان، لغة الأسئلة، لغة الخيارات.

ثم يأتي كسر الحتمية السياسية التي تروّج لها الأنظمة حين تقول إنه لا بديل عنها، فهي لا تصف الواقع، بل تفرض قيدًا على الخيال الجمعي، وتروّج لمعادلة زائفة مفادها أن كل تغيير هو خراب، وكل بديل هو فوضى، لكن التاريخ لا يعرف الخلود، والشعوب لا تنكسر إلى الأبد.

كسر هذه الحتمية يبدأ من إعادة صياغة الأسئلة المسكوت عنها: ماذا لو تغيّر النظام؟ من قال إن الفوضى حتمية؟ من قرر أن الطريق مسدود؟ من منعنا من تخيّل انتقال سياسي عادل؟ حتى سوريا، بكل ما آلت إليه تعطي الجواب!

الخطاب السلطوي لا يكتفي بقتل الأمل بل يُجرّم الحلم، ففي ظل عقيدة اللا أمل، يصبح النقد خيانة والحلم تهديدًا، والمطالبة بالحق تجاوزًا، ولهذا فإن إعادة الشرعية للنقاش، وإعادة الاعتبار للنقد، ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة لأي مجتمع أنهكه الخوف واستُنزف تحت وطأة القمع.

إن إنتاج خطاب بديل لا يقل وضوحًا عن خطاب السلطة، ليس خيارًا، بل واجب. خطاب لا يكتفي بفضح الفساد أو توثيق القمع، بل يؤسس لقناعة أن التغيير ممكن، وأن الحياة الكريمة ليست منحة من الحاكم، بل حق أصيل من حقوق الإنسان.

تفكيك عقيدة اللا أمل ليس عملًا نخبويًا منعزلًا بل فعل وجودي مقاوم.،ففي زمن يُروَّج فيه أن لا شيء سيتغير، تصبح أولى أشكال المقاومة أن تهمس لنفسك: لا… ليس هذا قدري. أن تقول إن الضريبة التي ندفعها اليوم باسم الحيلولة دون أن نكون “مثل ليبيا أو العراق”، يمكن أن تُدفع أو نصفها على الأقل في سبيل أن نكون مثل ألمانيا أو اليابان.

المصدر: https://n9.cl/bx1hg

لِمَ لم تثمر الديمقراطية في البلاد العربية؟

على أرض الواقع لم تنجح الديمقراطية حتى الآن في بلادنا العربية ولم تؤتِ ثمارها بل بقيت البيئة السياسية العربية حالةً نشازًا غير قادرة على الإثمار. يرى البعضُ ويبرّر ذلك بأن الديمقراطية نظام غربي لا يناسب البيئة العربية وأن التاريخ العربي قد أثبت أن ما يناسبنا هو الدكتاتور العادل، فهل هذا التوصيف صحيح؟

قد تكون فكرة الدكتاتور العادل منطقية للوهلة الأولى إذ يقوم هذا الطرح على فكرة وجود الدكتاتور الحازم صاحبِ الرأي الثاقب، الذي يملك الحكمةَ والقوة والضمير الحي والحسّ الإنساني المرهف القادر على العدل والإنصاف، والقدرةَ على تجديد الفكر والبرامج والمشروع، لكن هذه الشخصية قد لا تكون سوى حالة طوباوية حالمة لا يمكن وجودها على أرض الواقع.

وفي الوقت ذاته السلطة المطلقة مفسدة مطلقة والدكتاتورية أول درجة في سُلم الظلم والفساد فالدكتاتورية وحكم الفرد هما البيئة المثالية التي يعيش ويتفشّى ويتمدد فيها الظلم والفساد وسوء الإدارة والفوضى، والانهيار بعد ذلك، والتاريخ شاهد على كل ذلك.

نخبٌ أيديولوجية

عند البحث وتتبع التجارب العربية الحديثة في محاولة خلق حياة ديمقراطية حقيقية، وجدنا أسباب التعثر والفشل والانتكاس التي أصابت تلك التجارب العربية الحديثة محصورةً في كثير منها بالتالي:

  • عدم وضوح الفكرة الديمقراطية في نفوس الشعوب التي تُعَد الركيزةَ الأساسية في العملية الديمقراطية فالشعب هو أساس العملية الديمقراطية التي تعني حكمَ الشعبِ نفسَهُ.
  • عدمُ وضوح فكرة الديمقراطية في الحكم والتداول السلمي للسلطة زَهد الشعوب العربية في الديمقراطية والنضال من أجلها حتى وجدنا بعض الشعوب تهتف ضد المؤسسات والسلطات التي انتخبَتْها عندما حرضَتْها القوى المستبدة ضد المؤسسات الديمقراطية.
  • عدم وضوح فكرة الديمقراطية لدى النخب العربية التي تقود الشعوب فالنخبُ العربية التي وُلدت في حقب الاستبداد العربي- في غالبها – نخبٌ أيديولوجية غير برامجية مقسومةٌ بين نخبٍ عِلمانية ليبرالية كل هدفها تعظيم الحريات الشخصية وعلى رأسها الحريات الجنسية ومحاربة البيئات المحافظة ونخبٍ إسلامية لا تهتم بالحريات الشخصية وتحاول فرض نمط محدد من السلوك الاجتماعي على حياة الناس ومعاشها.

ظلت هذه النخب لزمن طويل تنظر إلى الديمقراطية على أنها نوع من الغزو الثقافي الغربي الذي تجب مقاومته وتتمسك بفكرة المتقابلات ما بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية. فيما تنظر نخب عربية يسارية إلى الديمقراطية بازدراء وتُؤمِن بأن قوة الدبابة هي الوسيلة الأكثر أمانًا والطريق الأسهل للحكم والاستقرار.

أيضًا تَختزل هذه النخبُ الديمقراطيةَ بأنها الصندوقُ ونتائجه، وترفض فكرة أن الديمقراطية كما هي الصندوق وحكم الأغلبية فهي أيضًا الانتخابات المبكرة في حالات الاستعصاء السياسي والاستقالة والاعتذار المبكر في حالات الفشل.

وينظر معظم النخب العربية إلى بعضهم بعضًا على أنهم خصوم يدخلون فيما بينهم بصراع صفري كل ما يهمهم هو كيف يُفشلون بعضهم بعضًا، حتى وصلوا إلى مرحلة من الاستعانة بالاستبداد على بعضهم.

أغرت هذه الحالة المتردية التي تعيشها النخب وعدم وضوح فكرة الديمقراطية وممارساتها الاستبدادَ العربي، ومكّنت له ومنحته الفرصة الذهبيّة لإحكام سيطرته على مقاليد الحكم بعد الثورات العربية.

فقر سياسي

قابلية النخب السياسية للاستعمال: لم يعش كثير من النخب العربية حالة من النضال السياسي الحقيقي من أجل الديمقراطية والتضحية في سبيلها فنجد كثيرًا من منتسبي الحركات الأيديولوجية يشاغبون بالفكر الديمقراطي من أجل لفت انتباه الحاكم لهم، وما أن يلوح المستبد لهم بالمشاركة معه في الحكم وتقاسم المغانم حتى ينقلبَ كثيرٌ منهم على فكرة الديمقراطية ويحاولوا أن يزينوا حالة الاستبداد ويبرروها بين أبناء الشعب بمسميات مختلفة مُبدينَ تفهمًا لها.

تخلّف الأنظمة الانتخابية في الدول العربية: بعد أن جاءت الشعوب العربية بالثورة، اتضح أن النخب السياسية والقانونية لا تملك تفاصيل ما تريد، فهي نخب تعلم ما لا تريد، لكنها لا تعلم ما تريد.

هذه الحالة نتيجة طبيعية لحالة الفقر السياسي الكبير الذي خلفته الأنظمة المستبِدة وأصاب كل طبقات المجتمع، فكل ما كانت تقوم به تلك الأنظمة المستبدة هو تجريف أي حالة وعي أو قيام حياة ديمقراطية مستقبلًا حتى بعد رحيلها وقد نجحت في ذلك.

كانت هناك حالة فقر في إدراك وفهم أهم قواعد الحكم في الأنظمة الجمهورية إذ تقوم فلسفة الأنظمة الجمهورية الديمقراطية على فكرة أن الرئيس مَن يباشر مهام الحكم بنفسه وحتى يستطيع ذلك لا بد من أن تنسجم كل مؤسسات الدولة العميقة معه في البرنامج والرؤية.

ركّزت الأنظمة الانتخابية التي جاءت بها قوى الثورة على كيفية الوصول برئيسٍ منتخَبٍ إلى الحكم لكنها لم تكن تعي أهمية كيفية تمكين الرئيس المنتخب من الحكم الحقيقي فلا حكمَ لرئيسٍ دون أن تكون الدولة العميقة تحت توجيهاته وقراراته وتعيينه وعزله لقادتها.

أما في أنظمة الحكم البرلماني العربي فقد وجدنا كيف فُرغَت فلسفة الحكم البرلماني من جوهرها تلك الفلسفة التي كانت تقوم على فكرة أن الأغلبية هي التي تحكم وتشرع وتحمي وتدعم خطة من يحكم وأن الأقلية هي التي تراقب وتعارض وكل هذا لا يمكن أن يكون إلا من خلال نظام انتخابي يفرز أغلبية وأقلية داخل البرلمان.

اختطاف الديمقراطية

غابت هذه الحالة عن الأنظمة البرلمانية العربية التي أنتجت في معظمها برلمانات -معلقة بالمعنى السياسي- لا يملك فيها أي حزب أغلبية برلمانية، مما دفع القوى السياسية للذهاب إلى الحكومات الائتلافية وحكومات المحاصصة فكانت نتائج التطبيق أبشع صورة للحكم البرلماني.

كل ذلك كان نتيجة خللٍ في التشريعات والنظم الانتخابية وغيابِ العتبة الانتخابية أو نسبة الحسم المرتفعة في الأنظمة الانتخابية من الأساس فوُلدت برلمانات أقليات سياسية مبعثرة غير قادرة على الحكم.

اختطاف التجارب الديمقراطية العربية من قبل الفئات المفسدة للعمل الديمقراطي فلا يمكن للديمقراطية أن تعطي نتائج حقيقية إلا إذا كانت قائمة على حالة من التدافع بين مَن يقدم الأفضل لجمع المال العام وإدارته وإعادة توزيعه، وهذا لا يكون إلا بخطاب برامجي بعيدًا عن فئاتٍ أربع تفسد الديمقراطية والفلسفة التي قامت من أجلها الديمقراطية وهي:

“من يملك القوة الخشنة ومن يملك الشوكة الروحية ومن يملك نفوذ القبيلة ورابطة الدم،ومن يقدم الخطاب الشعبوي”.

يُفسد الديمقراطيةَ كل من يستطيع استخدام القوة الخشنة في حسم الصراع وحالة التدافع مع منافسه في السباق الديمقراطي، فكل من يملك القدرة على تسخير القوة الخشنة والبندقية في حسم صراعه مع خصومه، وحسم التنافس لصالحه وصالح مَن يدور في فلكه وتحالفه، سواء كان من خلفية عسكرية أو مدنية، سيُفسِد ديمقراطيته، فعندما تحضر البندقية والقوة الخشنة تغيب قوة البرنامج والطرح، وتفرغ الديمقراطية من قيمتها وفلسفتها.

معايير واضحة

أيضًا يمكن تعريف رجل الدين بأنه كل مَن يملك شوكة روحية في نفوس الجمهور فمن يملك الشوكة الروحية في نفوس الأتباع تكون منافسته مختلة ومحسومة لصالح القداسة والشوكة الروحية وتغيب حالة التدافع على صلاحية البرنامج ومن يستطيع خدمة الناس فوجدنا كيف سقطت الديمقراطية العراقية وفُرغَت من هدفها وغايتها.

حكم القبائل: القبائل مكونات اجتماعية هدفها التعاون والتعاضد الاجتماعي وقد كان لتسخير رابطة الدم والقبلية في المعارك الانتخابية العربية ما يناقض فكرة الديمقراطية وفلسفتها؛ فاستعمال القبيلة لإثبات سطوة القبيلة ونفوذها وقوتها وبسط سيطرتها، وتحويلها من كيانات اجتماعية إلى كيانات سياسية موسمية في المعارك الانتخابية، أفقد العملية الديمقراطية علتها وأفسد مخرجاتها.

أيضًا كان لتنامي الشعبوية السياسية وتفشيها بين الشعوب العربية- ومحاولة تصوير الديمقراطية على أنها عصا سحرية لحل مشكلات الناس ومتطلباتها وما تطمح إليه سريعًا- أثرٌ في هدم العملية الديمقراطية برمتها فوجدنا كيف استطاعت الشعبوية السياسية في حالات المد أن تصل ببعض شعوب الثورات العربية إلى أن تهتف ضد الديمقراطية وتؤيد وتصفق لحكم الرجل الواحد وتؤيد تفكيك مؤسسات الدولة لصالح حكم الفرد.

ولا تزال الشعبوية لدى الغرب تؤثر بين الحين والآخر في العملية الديمقراطية، وفي نتائج الانتخابات بنسب مختلفة، لكنْ بالتأكيد لم تصل الشعبوية لديهم إلى معاداة الديمقراطية وتقويضها كما حصل في الدول العربية باستثناء محاولة ترامب التي وُوْجِهَت بحكم المؤسسات الراسخة وملاحقة القضاء.

لبناء حالة ديمقراطية عربية حقيقية ومؤثرة نحتاج إلى تحويل الديمقراطية إلى ثقافة وسلوك حياتي من خلال نشر معارفها وعلومها في كل المراحل التعليمية المدرسية والجامعية، وإنضاج النخب السياسية العربية لتكون الديمقراطية لديهم المسار الإستراتيجي في التعبير عن أفكارهم ومشاريعهم.

المصدر: https://n9.cl/bpbci

طوفان الأقصى وفشل نموذج الدولة العربية!

منذ عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023 ولأكثر من سنة ونصف لم تجرؤ دولة عربية واحدة لاسيما من دول الطوق المحيطة بالكيان الصهيوني على اتخاذ خطوة ملموسة من شأنها القيام بأي عمل عدائي ضد “إسرائيل” والتزمت الدول العربية ببيانات الشجب والإدانة والاستنكار والدعوات للقمم والمنّ بقراراتها ومحاولات العمل بجهود متواضعة على تنفيذ جزء بسيط من قراراتها التي لا تحتمل التأويل بأن تكون صاحبة أي شقّ عدائي أو مجرد التلويح بخطوات ربما تُفسّر بأنها ملموسة ضد الكيان الصهيوني الذي يخوض حرب إبادة متواصلة ضد غزة منذ السابع من أكتوبر.

ولم تنجح الدول العربية -على الأقل-  في تمرير المساعدات المكدسة على أراضٍ عربية خالصة كاملة السيادة شكليًا وقانونيًا إلى الجانب الآخر الفلسطيني من معبر رفح بدعوى الافتقار إلى التنسيق وعدم الحصول على موافقات أو الخوف من القصف الصهيوني في علامة ضعف واضحة رغم ادّعاء الجانبين أن كل منهما ليس مسؤولًا عن عدم إدخال المساعدات!

وفي حين بقيت الدول العربية صاحبة حكومات مكبّلة عاجزة غير قادرة على إدخال شربة ماء للقطاع المحاصر دون إذن الاحتلال.

لم تستطع الدول العربية مجتمعة أو فرادى العدول عن نموذج الإذعان التام للمجتمع الدولي ولكتلته الغربية على رأسها الولايات المتحدة ولم تحرك ساكنًا في نمط علاقاتها معها مجتمعة ولم تتصرف كدول مستقلة أصلًا مما بات واضحًا بأن الدول العربية ككيانات لها صفة السيادة والاستقلال ضعيفة لدرجة الوهن أمام الغرب ومؤسساته، وغير قادرة على التصرّف ككتلة موحدة وغير قادرة على القيام بعمل عدائي “واحد” ضد الكيان الصهيوني المستشري في قلبها في حين لم تخرج دولة عربية واحدة عن النسق او حاولت التصرف بشكل فردي لتكبلّها بقيود المجتمع الدولي أو الهجمة الغربية المحتملة عليها والتي ستلقى مساعدة من خصومها العرب بالطبع!

لم ينجح في كسر العزلة العربية إلا فواعل من غير الدولة حركات وأحزاب ترفع شعارات المقاومة، تجمعات وحركات ليس لها من “الشرعية الدولية” نصيب ولا تعتبر فاعلًا يحظى بتمثيل في المنظمات الدولية أو كرسي في الجمعية العامة للأمم المتحدة أو صفة رسمية أمام الأسرة الدولية. نجحت حركة المقاومة الإسلامية “حماس” وحركة الجهاد الإسلامي من قلب قطاع غزة المحاصر في تنفيذ عملية السابع من أكتوبر ببراعة وهما فاعلان من دون الدولة بل معزولان عالميًا بفعل التصنيفات والعقوبات الآتية من الغرب أساسًا ولم يحظَ أي منهما بدعم عربي رسمي منذ عشر سنوات تقريبًا، بل وسبق أن صنّفتهم دولًا “عربية” خلال العقد الأخير كحركات إرهابية وأطلقت عليها إعلامها الموجه بشكل منظم بالإشاعات وكيل الاتهامات حتى إبان حرب الإبادة هذه!

إضافة إلى ما سبق ساندت عملية السابع من أكتوبر فواعل من دون الدولة تتمتع بذات التضييقات والتصنيفات، والمواجهات التي وصلت إلى شنّ الحروب عليها من دول عربية أخرى كحزب الله في جنوب لبنان وجماعة أنصار الله “الحوثي” في اليمن وحركات المقاومة الإسلامية في العراق التي يُختزل النظر إليها بسخافة على أنها أذرع إيرانية وفقط دون النظر إلى نشأتها وتحالافتها ودينامياتها الداخلية وتفاعلاتها الخارجية وهي نظرة ركيكة مجتزأة تحاول إضفاء طابع السحرية على الدور الإيراني في الدول العربية وهو ما ينقضه تحركاتها المتباطئة منذ 100 يوم. ولما أقامت دول غربية تحالفًا كي جماعة “الحوثي” في اليمن منطلقًا من قواعد عسكرية أمريكية منشأة في دول عربية لم تساندها دولة عربية واحدة زيادة وإمعانًا في الضعف والهشاشة التي يتصف بها نموذج الدولة العربية بشكله الحالي.

بمقارنة بسيطة بين ردة فعل الدولة في مقابل الفواعل غير الرسمية من دون الدولة يصبح أمام مقارنة بين أفعال الأنمة الرسمية ذات الشرعية الدولية وبين حركات المقاومة التي تجابه عزلة دولة رسمية ووسمًا بالإرهاب لذا يمكننا القول أن الدول العربية كمنوذج تطور وتشكّل منذ القرن الماضي عبر مراحل تطورية بعد استعمارية post colonial، لم يستطع -بمواقف مختلفة- أن يُقدم على عمل عدائي واحد ضد “إسرائيل” وحُيّدت بمرور الزمن أكبر دولة عربية وصاحبة التاريخ الأطول في الصراع مع إسرائيل عن أي معركة، حتى المعارك الدبلوماسية منها! ولم تظهر بأي موقف عدائي وبات أن مصر في اكثر عصور الضعف حاليًا مقارنة بمواقف متواضعة أبدتها حيال القضية الفلسطينية قبل ثورة يناير مثلًا، وحروب خاضتها خرجت منها بنتائج متباينة.

بناء على ما سبق يمكن الاستنتاج بأن الدولة العربية لم تفِ بإحدى أغراض تأسيسها وهو حماية الأمن القومي العربي وإحلال سيادته، والتخلص من سطوة الاستعمار الذي أعاد صياغة نفسه بأشكال مختلفة منها اقتصادية أوالتحالف مع النخب الحاكمة في جلّ البلدان العربية بطريقة لا تُثبت سوى أن التبعية للمستعمر مازالت قائمة! كذلك بدى واضحًا أن الدولة العربية بأشكال حكم مختلفة، وخلفيات استعمارية متباينة غير قادرة على معاداة آخر مستعمر في العالم، لاسيما دول الطوق التي لم تحرّك ساكنًا من قطعها العسكرية المصطفة على الحدود.

الدول العربية بنموذجها الحالي الذي يحسبه البعض قد ترسّخ هي فاشلة بامتياز فهي لا تعبر عن نظام إقليمي موحد بأي شكل من الأشكال ولا تعتبر لنظريات الأمن القومي الإقليمي بأي طريقة مذ غزت دولٌ عربية دولًا جارة لها! وجزأت أمنها القومي حينما تحالفت مع الجيب الاستعماري الأخير في العالم ولم تقدر على هزّ العلاقات الدبلوماسية والتحالفات العسكرية معه، حتى إبان حرب الإبادة المستمرة وحين ظهرت “الدولة العربية” كنموذج عاجز على إيقاف الإبادة بأي طريقة كانت!

رغم ذلك كانت الثورات العربية بموجاتها تعبير عن رفض فشل الدولة العربية ومحاولة لصياغتها بشكل جديد غير خاضع للقوى الغربية فمن غير المستغرب أن القوى التي تحالفت ضد الثورات العربية ورغبات الشعوب العربية في دولة ديمقراطية ذات سيادة، والأنظمة التي أفرزتها الثورات المضادة هي الصفّ الأول في التحالف مع “إسرائيل” أو هي القوى الضعيفة غير القادرة على القيام بعمل عدائي واحد ضد “إسرائيل” التي ترتكب أفظع جرائم القرن ضد الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية.

سيكون السابع من أكتوبر وما تلاه من ردود فعل عربية على المستوي الرسمي وما صاحبها من عجز وتخاذل تاريخًا مهمًا لفشل النموذج الحالي للدولة العربية أيًا كان شكل الحكم فيها، ولاسيما دول الطوق التي أثبتت عجزًا عميقًا عن مجرد التلويح بخطوات عدائية أو رادعة تجاه “إسرائيل” .

المصدر: https://n9.cl/v1zjj5

“إيكونوميست”: الوطن العربي تحول لدول فاشلة أو على حافة الفشل ويعاني أزمة هويات وطنية

نشرت مجلة “إيكونوميست” تقريرا خاصا عن العالم العربي تناولت فيه عددا من القضايا مثل قضية فلسطين التي لم تعد تجمع الدول العربية واهتمام الأنظمة بالقضايا المحلية، وفشل الإسلام السياسي والديكتاتورية في مصر، وفشل الجامعة العربية التي لم تقدم أي شيء لأعضائها طوال أكثر من 70 عاما على إنشائها، ورقصة النصر الفارغة لإيران في تنافسها مع السعودية، وأزمة الهوية التي يعاني منها العالم العربي. وهي المحور الأول في التقرير. وقالت فيه إن المنطقة تعاني من نزاعات وانهيار.

أن تمشي اليوم في ساحة التحرير التي كانت قلب ثورة 2011 فكأنك تمشي في بيت فارغ تسكنه الأرواح الشريرة. فخلال 18 يوما من الاضطرابات كان الجو يتراوح بين الاحتفال والخوف. وغنى الشباب وتحدثوا بحرية. وركب البلطجية الجمال ومروا من جانب المتحف المصري وهجموا باتجاه الجماهير.

وبعد سنوات من رحيل حسني مبارك كانت الدعوة “لنرجع إلى التحرير” بمثابة الشعار الطبيعي للناشطين عندما شعروا أن عملية التحول الديمقراطي تعاني من مشاكل. وأشارت المجلة لما حدث للميدان الذي أشرف على تغييره الجيش في عام 2013 ليصبح مشابها لفكرة رجل عسكري عن الأماكن العامة. فقد تم تجميله وطلاء البنايات بطلاء جديد وزراعة الحشائش التي يُعتنى بها بشكل جيد. وتتوسط دواره المسلة حيث يقوم الجنود بإبعاد أي شخص يقضي وقتا أطول من المسموح فيه. وفي جنوب الميدان يقع “مجمع التحرير” النصب البيروقراطي الذي ضيعت أعداد كبيرة من المصريين فيه ساعات طويلة وأنفقوا أموالا لا تحصى على رشاوى للمسؤولين من أجل استخراج أوراق رسمية. وقد تم نقله إلى العاصمة الجديدة الفخمة في الصحراء. وفي شمال الميدان يقع المتحف الذي سحر مدخله أجيالا من السياح، وتم نقل ذخائره إلى متحف في الجيزة كلف مليار دولار ورغم حركة السيارات فيه إلا أن الميدان بات خاليا من الحياة كما ولو أن حكام مصر تطلعوا إلى فترة راحة من فوضى العقد الماضي.

وهو ما يجعله مكانا مناسبا لأن الميدان يستقبل الجامعة العربية المؤسسة التي أنشئت عام 1945 وتبدو اليوم وكأنها نصب ينم عن زمن مضى وقد بنيت في موقع ثكنة عسكرية بريطانية سابقة وكانت الجامعة بمثابة لفتة إلى موجة القومية العربية في منتصف القرن التاسع عشر ودور مصر فيها وبعد 75 عاما على إنشائها لم تحقق المتوقع منها. فقد تراجعت موجة القومية العربية وكذا مكانة مصر في المنطقة فالسير إلى جانب المبنى ومنه إلى الميدان الخالي يدعوك للتساؤل: حتى عندما تكون الهويات الوطنية في الشرق الأوسط محل شك فما هو العالم العربي إذا؟.

فقبل ظهور الإسلام كان العرب مجرد قبائل تتحدث بالعربية تسكن شبه الجزيرة العربية وصحراء الرافدين. ووسعت فتوحات الخلافة الإسلامية اللسان العربي إلى مناطق جديدة وصلت حتى إسبانيا الحديثة وباكستان.

وكانت آخر الخلافات هي العثمانية في القرن السادس عشر والتي عبدت الطريق أمام مرحلة من 400 عام حكم فيها العرب ناس من الخارج.

وبحلول 1800 حيث بدأت الدولة العثمانية بالتراجع أخذ المثقفون العرب ينظرون إلى اوروبا المتقدمة تكنولوجيا وسياسيا وهي إنجازات يبدو أنها بنيت على أساس نتاج المفكرين العرب.

وشعروا أن الدولة العثمانية راكدة وقاسية وكان نتيجة هذا الإحباط ظهور القومية العربية وهي أيديولوجية أكدت على الأمة العربية التاريخية المرتبطة باللغة والثقافة والمهيأة للتجدد لو استطاعت التخلص من نير الاحتلال التركي. ولم يتم وضع هذه الأفكار في موضع الممارسة إلا بعد قرن. ومع أفول نجم الدولة العثمانية بدأت القوى الأوروبية بتقاسم المناطق العربية ورسمت فرنسا وبريطانيا حدودا عشوائية استمرت حتى اليوم وحنثتا بالوعود والانسحاب ومنح العرب الاستقلال.

وفي العقد الذي أعقب نهاية الحرب العالمية الثانية استطاع العرب وأخيرا السيطرة على دولهم القطرية وكانت حدود بعضها عشوائية لكنها تمتعت بالسيادة ولأول مرة منذ قرون.

وكان لدى مواطنيها طموح نحو النمو والتقدم والحكومة الممثلة وما تبع ذلك عقود طويلة لخلق وتوسيع هوية عربية عابرة للحدود وأصبحت القومية العربية الأيديولوجية الصاعدة في المنطقة. وكان منافسها وهم الإسلاميون الذين تمظهروا عبر الإخوان المسلمين.

وكان من المفروض أن تقوم الجامعة العربية بدمج الدول العربية وحماية استقلالها وأصبح النزاع مع إسرائيل المحك: كفاح عسكري مشترك للبعض وهدف أيدلوجي للجميع. وبعيدا عن السياسة ساهم الإعلام الجماهيري في بناء ثقافة مشتركة وأصبحت السينما المصرية مشهورة ومنتشرة بشكل واسع وصدح صوت فيروز الحزين المغنية اللبنانية الشهيرة في مقاهي وسيارات تونس وبغداد.

وكانت موجات إذاعة “صوت العرب” تصل إلى كل العالم الناطق بالعربية. وكان الربيع العربي الذي بدأ في 2011 محاولة عروبية فقد أشعل حرق بائع متجول نفسه في تونس التظاهرات في معظم العالم العربي. وحفزتها قناة الجزيرة القطرية التي زادت شعبيتها مع توسع الاضطرابات وانتقلت الشعارات والأساليب من مكان لأخر. وهتف المحتجون في بلد تضامنا مع البلد الآخر. إلا أن التظاهرات كشفت عن عروبة جوفاء.

فلم تلعب الجامعة العربية أي دور سوى تحولها لنكتة على منصات التواصل الإجتماعي فالقومية العربية التي طالما ارتبطت بالأنظمة الديكتاتورية والسياسات الإشتراكية الفاشلة فقدت مصداقيتها، وثبت أنها أيديولوجية لا توحد.

وحقق الإسلاميون بعض المكاسب إلا أن حكمهم القصير الذي أثار الانقسام وعجزهم مزق سمعتهم وفقدت المعركة مع إسرائيل بعضا من حسها حيث حول العرب غضبهم ضد حكامهم الذين قتلوا من شعوبهم أكثر مما فعلت إسرائيل.

ويؤكد التقرير الخاص على النظام الإقليمي الذي ظهر خلال العقد الماضي وركز على ثلاثة ملامح.

  • الأول: هو ضعف الدول العربية فالدول القوية في الشرق الأوسط هي غير عربية.
  • الثاني: هو هشاشة الدول العربية الداخلية بمواطنين شباب واقتصاديات غير منتجة التي تعتبر تهديدات وجودية تواجه دائما بالقمع. وبعيدا عن دول الخليج، فالعالم العربي هو مجموعة من الدولة الفاشلة أو تلك التي في طريقها للفشل. وإلى جانب أزمات الشرعية والحكم.
  • هناك ازمة ثالثة: وهي أزمة الهوية فبدون أيديولوجية أو مؤسسات تربط المنطقة ببعضها البعض بدأت بعض الدول برفع شعارات وطنية ضيقة فلو سألت أي شاب عربي عما يعني ان يكون عربيا فإنه يجد صعوبة في الجواب.

وقال صحافي لبناني مازحا “الوقوف في طوابير الوقود” و”الرغبة بالهجرة” حسب رجل أعمال مصري و”هي الحنين لوطن” كما قال أكاديمي بحريني. وبعد قرنين على حلم المثقفين العرب ببناء منطقة عربية مزدهرة وذات سيادة وموحدة فما يجمع الشعوب العربية من مراكش إلى مسقط هو حس التعاسة.

صحيح أن مرحلة ما بعد الحرب لم تشهد سلاما في الشرق الأوسط لكن هذا عندما سيطر العرب على نزاعاتهم.

لكن المنطقة مقسمة إلى ثلاثة معسكرات تقود كل معسكر دولة غير عربية.

  1. المعسكر الإيراني الذي يقدم نفسه على أنه معسكر المقاومة ويعول على النظام السوري كحليف ” وذلك قبل انهيار نظام الأسد ووصول حركة إسلامية للسلطة مع الحركات الشيعية في العراق ولبنان واليمن.
  2. أما الثاني فتقوده تركيا التي تدعمها جماعة متجذرة في الإسلامية السنية وتعتبر قطر حليفة لها ولها تأثير في ليبيا وسوريا بعد انهيار نظام الأسد.
  3. ويعارض المعسكران الملكيات في الخليج وهي غنية ومستقرة ولكنها قلقة على أمنها ولهذا رمت بثقلها على دولة ثالثة غير عربية: اسرائيل أقوى دولة في المنطقة” قبل هجوم السابع من أكتوبر وتنتهي نظرية أقوى جيش في المنطقة ونظرية الرع الإسرائيلي.

ولم يكن هناك منتتصر في هذا الصراع فسنوات من الحرب الأهلية في اليمن وسوريا وليبيا خلفت دولا لا يمكن التعرف عليها كدول ذات سيادة. أما الحكومة العراقية التي ولدتها القابلة الامريكية بعد غزو 2003 فقد وقفت تتفرج على نهب الميليشيات المدعومة من إيران خزينة الدولة وتقتل النقاد.

وتعاني معظم الدول العربية من فقر مدقع وبطالة وخدمات أساسية مريعة. وآطاح المصريون بديكتاتور ليرحبوا بآخر. وبنى التونسيون أول ديمقراطية حقيقية في العالم العربي ولكنها مهددة اليوم. وأصبحت نسبة البطالة في البلدين عام 2020 أعلى مما كانت عليه 2010 وبمعدلات عالية من الفقر وديون بالنسبة للناتج المحلي العام.

بل وباتت دول الخليج التي كانت واحة للاستقرار تتذمر من نهاية نموذج اقتصاد الرعاية وطمحت القومية العربية في القرن العشرين بأن تبني عالما عربيا لا تفرقه الحدود.

ولكن العالم العربي اليوم مكون من 22 دولة يبلغ تعداد سكانها 400 مليون وهناك أعداد أخرى موزعة على الشتات.

ولم يكن الانقسام العربي محتوما حيث تتحمل القوى الأجنبية بعض اللوم ودعمت أمريكا والاتحاد السوفييتي الأنظمة العربية السيئة خلال الحرب الباردة.

واتسمت السياسة الأمريكية منذ 2003 بعدم التناسق وظل على الأغلب رهيبة وهناك خط مستقيم يربط احتلال العراق بصعود تنظيم “الدولة”.

وبالنسبة للحكام العرب فالحديث عن الوحدة هو ذريعة لتدخل الدول الكبرى في شؤون الدول الأصغر. وترك الفساد والعقم حتى الدول الغنية في حالة من الانحطاط. وفشل المستبدون بالاستثمار في التعليم وأثاروا الخلافات الداخلية بشكل يحبط أي محاولة لإنشاء ديمقراطية.

وما نشاهد اليوم هو نوع ثان من القومية فالجامعة العربية لا تزال قائمة لكنها لم تبن علاقات تجارة وسفر تعمل على دمج المنطقة وبدلا من الدعوى للوحدة الإقليمية فالجيل الجديد من الديكتاتوريين أو الذين نجوا من الربيع العربي يكافحون للحفاظ على الهوية الوطنية.

المصدر: https://n9.cl/5m595