أزمة ذاتية الصنع في مصر

برفضها الاعتراف بالمخاوف الأمنية المشروعة لإسرائيل، تعمل مصر على تقويض مصالحها الخاصة.
يظل ممر فيلادلفيا مصدراً رئيسياً للتوتر في مفاوضات وقف إطلاق النار الحالية بين إسرائيل وحماس. وتصر إسرائيل على ضرورة الاحتفاظ بالسيطرة على المنطقة، وهي شريط ضيق من الأرض يمتد على طول الحدود بين مصر وغزة، لمنع حماس من تهريب الأسلحة إلى غزة من سيناء. ولكن القاهرة تزعم أن الوجود الإسرائيلي في الممر يشكل تحدياً غير مقبول لدورها القيادي في المنطقة. “ولكن القادة المصريين هم المسؤولون عن طلب إسرائيل”. والواقع أن القاهرة هي التي عجلت باندلاع الحرب بالسماح لحماس بتهريب المواد إلى غزة لسنوات.
ورغم المقاومة الكبيرة من جانب المسؤولين المصريين، سيطرت القوات الإسرائيلية على ممر فيلادلفيا في السابع من مايو/أيار، بهدف قطع طرق تهريب الأسلحة التي تستخدمها حماس في الأنفاق تحته. وقد أثارت هذه الخطوة غضباً عارماً في مصر. في العاشر من مايو/أيار، تحدث المذيع المصري البارز عمرو أديب نيابة عن الحكومة وملايين المصريين عندما أدان علناً الإجراء الإسرائيلي. وقال في برنامجه إن هذه الخطوة “مليئة بالتحدي والغباء”. وكررت وسائل الإعلام المصرية التي ترعاها الدولة هذا القول.
تاريخياً، كانت مصر بمثابة بوابة إسرائيل إلى العالم العربي. فقد قادت قوات ضد إسرائيل خلال حرب الاستقلال ثم اشتبكت مع إسرائيل في حرب عام 1956. وتعمق التنافس مع تورط مصر في حرب الأيام الستة عام 1967 وحرب يوم الغفران عام 1973. وعززت هذه الصراعات صورة مصر كمدافع عن المصالح العربية وزعيمة القضية الفلسطينية. وظلت العلاقة باردة بعد أن أبرمت مصر السلام مع إسرائيل عام 1979، حيث لم يتقبل المجتمع المصري اتفاق السلام بشكل كامل.
ولكن في السنوات الأخيرة، تحول دور مصر بشكل كبير. لقد أدت اتفاقيات إبراهيم لعام 2020، فضلاً عن الجهود المبذولة لتوسيعها لتشمل دولاً عربية أخرى، إلى تهميش القاهرة فعلياً مع تولي دول الخليج مثل الإمارات العربية المتحدة مكانة بارزة في إدارة العلاقات العربية الإسرائيلية.
وفي ضربة أخرى لصورة القاهرة الذاتية، اضطرت مصر إلى الاعتماد على إسرائيل في الاستخبارات والعمليات العسكرية المشتركة التي تهدف إلى مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية في سيناء. بل إن القاهرة سمحت لإسرائيل بضرب الجماعة الإرهابية جواً.
ومن الواضح أن سلطة مصر المتضائلة تتجلى أيضاً في مجالات نفوذها التقليدية. ففي الحرب الأهلية التي ابتليت بها السودان، الدولة المجاورة التي تمتد على أطول حدود مصر، كافحت القاهرة للعب دور قيادي في وقف الصراع. والجدير بالذكر أن مصر ليست حتى جزءاً من المجموعة المكونة من أربع دول تشرف على العملية التي وافقت عليها الأمم المتحدة للتسوية السياسية. وبدلاً من ذلك، تولت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة زمام المبادرة.
وفي الوقت نفسه، تتصارع مصر مع مشاكل أخرى تهدد استقرار البلاد. ولقد كان من أبرز ما اتسمت به هذه الأزمة الاقتصادية من تقلبات حادة، حيث بلغت معدلات التضخم مستويات قياسية، والبطالة، وارتفاع أسعار السلع المدعومة بشدة، بما في ذلك الخبز والكهرباء، سبباً في إحباط المصريين. وأصبحت مصر تعتمد على المساعدات الخارجية، والمؤسسات المالية العالمية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ودعم الدول الشريكة.
وفي ظل هذه التطورات، يهدد النزاع الحدودي في غزة بتعميق الشعور بالضعف المصري في الداخل والخارج.
ورغم التزامات القاهرة السابقة تجاه شركائها الأميركيين والإسرائيليين بتأمين الحدود، فإن موقف مصر من هذه القضية كان متناقضاً في كثير من الأحيان. فمن ناحية، اعترفت بعمليات التهريب ووصفتها بأنها مشكلة. ومن ناحية أخرى، فشلت في وقفها. وفي الحالات الأكثر فظاعة، زُعم أن حرس الحدود المصريين وكبار المسؤولين تآمروا مع حماس من خلال قبول الرشاوى للسماح للأسلحة وغيرها من السلع بالمرور عبر الأنفاق.
في مايو/أيار، أعلن المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، الأميرال البحري دانييل هاجاري، أن “ممر فيلادلفيا كان بمثابة خط الأكسجين لحماس الذي نفذت من خلاله عمليات تهريب الأسلحة إلى غزة بانتظام”. وفي الأيام التي أعقبت سيطرتها على الممر، اكتشفت القوات الإسرائيلية نحو 20 نفقاً و82 نقطة وصول إليها. وفي الرابع من أغسطس/آب، كشفت القوات الإسرائيلية عن نفق ضخم بشكل غير عادي يبلغ ارتفاعه عشرة أقدام. ووفقاً للصور التي قدمتها إسرائيل، كان النفق يقع في مرمى أبراج الحراسة المصرية والسياج الحدودي.
إن المشكلة ليست جديدة. فمنذ عام 2006، قال يوفال ديسكين، مدير جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (شين بيت) آنذاك: “إن المصريين يعرفون من هم المهربون ولا يتعاملون معهم… لقد تلقوا معلومات استخباراتية عن هذا منا ولم يستخدموها”. وفي عام 2007، ذكرت صحيفة نيويورك تايمز أن المسؤولين الإسرائيليين أرسلوا أشرطة فيديو إلى المسؤولين الأميركيين تظهر حرس الحدود المصريين وهم يساعدون في التهريب. ويثير هذا التاريخ تساؤلات حول ما إذا كانت تصرفات مصر ــ أو افتقارها إلى أي تصرف ــ تعكس عدم الكفاءة أو سياسة متعمدة.
وفي نهاية المطاف، تقدم هذه اللحظة فرصة للولايات المتحدة لمحاسبة مصر.
وللضغط على القاهرة، يتعين على الولايات المتحدة أن تفكر في ربط المساعدات المستقبلية باستعداد القاهرة للتعاون. وينبغي أن يشمل هذا المطالبة بمزيد من الشفافية والإشراف المستقل للتحقق من مزاعم مصر بشأن الأنفاق. ويتعين على الكونجرس أن يعقد جلسات استماع لفهم دور مصر وامتثالها بشكل أفضل كحليف للولايات المتحدة. وعلى الرغم من الزيارات التسع التي قام بها وزير الخارجية أنتوني بلينكن إلى الشرق الأوسط منذ بداية الحرب، لم يكن هناك الكثير من الوضوح بشأن الكيفية التي تعتزم بها مصر الوفاء بدورها كوسيط.
وبرفضها الاعتراف بالمخاوف الأمنية المشروعة لإسرائيل، تعمل مصر على تقويض مصالحها الخاصة، وإطالة أمد الحرب في غزة، وزيادة زعزعة استقرار علاقتها بالقدس. لقد حان الوقت لكي يعترف القادة المصريون إما بعجزهم عن تأمين الحدود والسعي إلى المساعدة من إسرائيل وأميركا، أو المخاطرة بأن يُنظَر إليهم باعتبارهم ممولين لحماس وحملتها الإرهابية.