الانهيار الممنهج.. الخطة التي اتبعها السيسي في مصر على مدار 10 سنوات

خطة الانهيار الممنهج التي اتبعها السيسي في مصر على مدار 10 سنوات
لا أرى أمام المواطن أو المتابع للشأن المصري إزاء الواقع المدهش سوى خيارين: إما التجاهل التام وهو ما أظنه مستحيلاً على الأقل في حالة المواطنين أو الوقوع فريسة لحالة الذهول الغاضب للتردي المستمر والتدمير الذي لا يوصف سوى بالمتعمد والممنهج للتراكم الحضاري للشعب المصري.
أحياناً كثيرة يبدو كما لو كان السيسي يتعمد أن يدمر كل القيم الجمالية المرتبطة بذكريات الناس كل ما جعل من مصر (تاريخياً على الأقل) ما هي في عقول الناس ووجدانهم كأن الواقع الراهن بصعوباته الاقتصادية الطاحنة وإهاناته المستمرة لم يكفه، فهو يحرم الناس من ذكرياتهم والأماكن التي ربما ارتبطت في مخيلتهم وذاكرتهم بأيامٍ أفضل.. أسعد وأبهى.
من الجائز تماماً أن أزعم بأنني أعبر عن مشاعر ملايين أكثر من أن يُحصوا حين أقرر أن الخوف من الغد مما يحمله، والخوف على الغد صارا القاسم المشترك والشغل الشاغل للسواد الأعظم، والأغلبية الساحقة من الناس، فهم ما لم يختاروا التعامي، أو تعليل النفس بالأماني يكادون يوقنون بأن المقبل أسوأ وهذا ما يرعبهم فمن لا يجد سيزداد فقراً وجوعاً والمستور سيتعرى والموسر سيعسر ولا أحد يعرف أين سيتوقف ذلك الانهيار وهذا السقوط.
لعل سؤالاً لا يتردد مثل: ماذا سيبيع السيسي اليوم ولأي دولةٍ خليجية؟ فالشاهد جهاراً نهاراً أنه جاراً معه البلد غارقٌ موحولٌ في ديونٍ لا آخر لها ويركض يائساً في كل الاتجاهات للوفاء بقيمة فوائد هذه الديون المستحقة.
بالطبع لا نعني هنا تلك الخمسة في المئة أو نحوها التي لا يعتني النظام سوى بها ولا يرى سواها ولعلنا أيضاً لا نتجاوز الصواب حين نقول إنه باستثنائها فإن السيسي وحّد قرابة الخمسة وتسعين في المئة الباقين على اختلاف طبقاتهم في الخوف من بطش آلة عنف النظام ومن المستقبل.
كامتدادٍ منطقي للتدهور والانهيار المذهلين، يلح على الناس سؤالان:
- كيف تمكن السيسي من كل هذا التخريب دون عراقيل أو موانع دون أن يتدخل أحد لإيقافه؟
- ثم أليس مِن حوله على الأقل ناصحون أو رجلٌ واحدٌ (إن لم نقل رجال) رشيد؟
الإجابة على السؤال الثاني سهلة ومباشرة لا تحتاج إلى جهد فهي بالنفي: لا، ليس حوله راشدون وإن وُجدوا باعتبار أن حماقةٍ كتلك لا تتكرر فهم يؤثرون الصمت خوفاً وطمعاً وقد فهموا جيداً طبيعة هذا النظام ورأس هذا الرجل المعتمة تماماً.
أما الإجابة على السؤال الأول فأعقد وأهم فالمشكلة ليست في السيسي ولكن في «الآلة» أو جهاز الدولة ذاك الذي مكنه من الوصول إلى غاياته وتنفيذ كل تصوراته وتحقيق كل ما يتراءى له أو يفرقع في رأسه المرتبكة محدودة الثقافة والمعرفة تماماً كما بتنا نعرف جيداً.
“الآلة الجهنمية“
للقمع وتقديس بل تأليه الحاكم ميراثٌ طويل في مصر، منذ عصورٍ سحيقة مما ليس هنا المجال للاستفاضة فيه، لكن يكفي هنا أن نلفت الانتباه إلى أن مصر، الخارجة من الحقبة المملوكية سواء المستقلة أو في ظل الحكم العثماني ومن ثم الفترة الأولى من حكم الأسرة العلوية وعلى الرغم من الأشواط التي قطعتها عبر النضالين الفكري والسياسي للفوز بالحريات السياسية والديمقراطية كان ما يربطها بماضيها الطويل أعمق وأقوى مما يشدها للمستقبل تحت غطاءٍ من المكاسب في القضية الوطنية حقيقية أم مبالغا فيها، والمشاريع ذات البعد الاجتماعي عمد عبد الناصر إلى تأمين انقلابه، أو ثورته، سمها ما شئت، بإزاحة كل معارضيه حتى من لم يحمل منهم السلاح، ولم يُعرف له تاريخٌ من العنف (أي جل القوى السياسية من الناحية الفعلية) بتصويرهم كرواسب ومخلفاتٍ من عهدٍ بائسٍ وفاسدٍ على الإجمال.
قد كان عبد الناصر المؤسس الحقيقي لهذه «الآلة الجهنمية» باعتمادها على الأمن وضرب المعارضين ومفردات ومفاهيم «الحشد» والاصطفاف إلخ، أي أن يصطف الجمهور ويتماهى مصفقاً للزعيم. قد يعترض علينا البعض بأن الأمن لم يتغول في عهده إلى هذا الحد وأن السياسة لم تنعدم وهو كلامٌ له وجاهته، لكن الرد عليه بأن مصر التي قاد فيها انقلابه كانت فيها قوى سياسية حقيقية ذات تاريخ، وبالتالي فإن تجفيفها ومحو أثرها يحتاج إلى عدة أجيال، وهو ما حدث بالفعل على يد من خلفوه.
لقد ترسخت على عهده تلك الآلة اللعينة التي تتيح للرئيس ذي الخلفية العسكرية أو مؤسسة الرئاسة سلطاتٍ لا حد لها كلية القدرة والمنعة وإذ جاء السادات فقد مسح خط عبد الناصر وعكس انحيازه الاجتماعي تماماً (رغم المعارضة الشرسة) مستغلاً هذه الآلة الباطشة ولم يشذ مبارك عن ذلك. حتى وصلنا إلى السيسي ورث هذه الآلة المضرجة بالدماء وأضاف لها كل سلفٍ شيئاً أو أشياء فباتت متضخمةً عابثةً منفلتةً بذيئة لا تقيم وزناً لقانونٍ ولا قيمة وعلى رأسها الحياة البشرية.
ورث مجتمعاً مرهقاً ممزقاً مهترئاً مفقراً ولما لم تأت الثورة بثمارها لأسباب متعددة معقدة ومتشابكة لم يكن العسكر بعيداً عنها على الإطلاق فقد زاد ذلك من يأس ذلك المجتمع وضعفه وقابليته للمزيد من الاستلاب والاستكانة لقهر هذه الآلة.
لا شك بأن ظاهرة القهر معقدة ذات آثارٍ نفسية عميقة ومترسخة، بفعل قرونٍ منها بما يؤهلها ويؤدي بها إلى إعادة إنتاج نفسها، لكنني لا أجد تفسيراً أكثر قدرةً على الإقناع لظاهرة السيسي، وما يأتي به من تصريحاتٍ ملغزة وتفكيكٍ ممنهجٍ للمركب المصري الذي ظل متماسكاً، على الرغم من كل ما مرّ به سوى آلة الدولة هذه.
ما يحدث في مصر عجبٌ عُجاب وكلماتٌ كالدهشة والذهول لا تكفي للتعبير عن مشاعرنا وعجبنا من كيف تمكن شخص محدود القدرات متدني مستوى الذكاء والمعرفة مفتقد الكاريزما ثقيل الظل فوق ذلك من إنفاذ قراراته وتمرير كل ما يريد دون مقاومةٍ تذكر. لن أملّ من التأكيد كون هذه الآلة اللعينة الدولة بجهازها القمعي هي منجز عبد الناصر ويوليو الأهم والأبقى ظلت تعمل بسلاسةٍ كآلةٍ تصان وتُشحم وتزيت جيدا تتغير السياسات والانحيازات وتظل هي عنصر الاستمرارية والرابط، قلب النظام وجوهره، وبالقدر نفسه الذي يتدهور فيه المجتمع، كانت تتضخم وتتشعب.
على شح ذكائه فهم السيسي ذلك وقام بخدمة تروس هذه الآلة عن طريق المنح الطائلة للضباط وإطلاق العنان لهم بالإثراء والانتقام ما شاؤوا دون مساءلة فانصاعت الآلة له تماماً.
من هنا أيضاً نفهم الخطأ أو القصور الجوهري في ما حدث في يناير وما قد يتكرر في أي حراكٍ مقبل، بما قد يؤدي له ذلك من تكرار الفشل: هو عدم إدراك طبيعة هذه الآلة.
لكي يحدث تغييرٌ ذو معنى في مصر لا تكفي إزاحة رأس النظام، بل لا بد من تدمير هذه الآلة. لكي تكون الثورة ثورة فلا بد من تفكيك آلة الدولة في مصر لا بد من ضرب عقدها العصبية وإزاحتها تماماً وإعادة بناء جهازٍ جديد لدولةٍ عصريةٍ جديدة بهيكل وصلاحياتٍ تخضع للمراقبة الشعبية وسلطة القانون ولا تسمح بإعادة إنتاج القمع والسيطرة الكاملة ودون هذا فلن تكون الحراكات الشعبية سوى فوراناتٍ وقتية سرعان ما تنحسر ليعود القمع أشد.
لست مزايداً على أحد كما أدرك أن هذه مهمةٌ شاقة وعسيرة لكن كذلك أزمتنا عميقة للغاية.
هذه الآلة التي ورثت ما قبلها فزادت عليها وكبرت وتضخمت وتغولت صارت كجبلٍ يقف في طريق أي تطورٍ أو تقدمٍ حقيقي ولا يمكن الالتفاف حولها كما أثبتت الأحداث منذ يناير.
كل الشواهد والتحليل المنطقي يؤدي إلى استنتاجٍ أن الوضع مرشحٌ للقلاقل وانفلات تعبيراتٍ عن التذمر والسخط لن أجزم بثورةٍ فمن الصعب التنبؤ بها بثقة خاصةً في ظل ما أعقب يناير من إحباط لكن في كل الأحوال سيزداد دور هذه الدولة وضوحاً وقد تكون تلك البداية المرجوة لمجابهتها ومن ثم الإطاحة بها مهما طالت هذه المسيرة وكلفت.
المصدر: https://2h.ae/yJXT
كيف أصبح المواطن رخيصًا في زمن السيسي؟
“حالة انهزام جماعية يأس وخمول وعدوانية ترسّخت في أجساد وأرواح وأحاديث جزء كبير من الشعب المصري” بهذه الكلمات وكلمات أخرى متقاربة يعبّر الكثير من المواطنين المصريين عن شعورهم بالإحباط من واقعهم الحالي سواء من خلال النقاشات بينهم أو حتى من خلال الكتابة على وسائل التواصل الاجتماعي.
انهزام مجتمعي جاء نتاج سنوات من الاستبداد والقمع تحت حكم عبد الفتاح السيسي لكن ما هي الأسباب التي أوصلت المجتمع المصري إلى هذا السواد النفسي؟ وكيف تُظهر الدولة ونظامها الاستبدادي مدى نظرتها إلى المواطن المصري وكأنه مواطن رخيص بلا أي قيمة؟ كما كيف تظهر من خلال ممارستها السلطوية مدى ضعفها وانحنائها أمام دول أخرى؟
على مرّ عقود طويلة عاش المواطن المصري دون أن يشعر أنه مواطن له حقوق وحريات وكرامة، فكل أنظمة الحكم التي مرّت على البلاد كانت تعامله معاملة استبدادية متعالية، كأنه رقم يسجَّل في تعدادها السكاني مجرد آلة مكوّنة من لحم ودم تعمل من أجل زيادة الإنتاج الرأسمالي، وبقاء وهيمنة واستقرار نظام الحكم.
فلم يشعر المواطن المصري بأي قيمة له سوى في سنوات ما بعد الانتفاضات الثورية التي مرّت بها مصر، كثورة عام 1919 وحركة الضباط في يوليو/ تموز 1952 وصولًا إلى ثورة يناير 2011 حيث شعر المواطنون أن صرخاتهم أحدثت بعض التغييرات حتى وإن كانت لمدة بسيطة قبل أن يتم الانقلاب عليها من خلال أنظمة الحكم الاستبدادية، التي تكره دائمًا صوت المواطن وتمحي كرامته وحريته.
في سنوات حكم عبد الفتاح السيسي شهدت مصر آلة قمع لم يكن لها مثيل في حكم الضباط من قبله وحتى في عهد جمال عبد الناصر الذي اتسم بتأميم المجال العام، والسيطرة على الإعلام والفن والصحافة وإرهاب وسجن وتعذيب معارضيه، فكان عهد السيسي، حسب الأرقام الموثقة العهد الأسود من حيث القمع الذي خلّف آلاف القتلى في الميادين والسجون، وعشرات الآلاف من السجناء، ومثلهم من الهاربين خارج البلاد، وعشرات المختفين قسريًا في ظروف غامضة، حيث بلعتهم آلة الدولة القمعية.
كل هذا القمع والترهيب لم يكن أثره على من ذاقه فحسب، بل امتد ليشمل فئات كثيرة ليس لها علاقة بالمعارضة السياسة بشكل مباشر، لكن الضرر وقع عليها بسبب الأزمة الاقتصادية التي خلّفت ارتفاعات متتالية لأسعار السلع والإيجار والمعيشة في مصر، ما جعل المواطنين المصريين يقضون أيامهم في وحول الفقر والهمّ، باحثين عن الستر لا أكثر.
وأصبحت يوميات المواطنين كلها تدور حول البحث عن عمل، أو مال كافٍ، أو سلع رخيصة الثمن، وعن حياة أكثر تقشفًا وزهدًا، وأكثر تكيُّفًا مع سياسات القمع والإفقار التي مارستها السلطوية السياسية بحقّهم.
كل هذا التعب والشقاء في المعيشة مقابل رؤيتهم لطبقات سلطوية عليا تعيش حياة شديدة الرفاه في السيارات والكومباوندات ومصايف السواحل الشمالية سواء برؤية مباشرة أو حتى من خلال شاشات الدراما والسينما.
هذه التمظهرات وتفاوتاتها الطبقية سلبت الناس إنسانيتهم ونفت كينونتهم كونهم ذوات مستقلة من المفترض أن يكون لها جسد وفكر خاصَّين بها وجعلتهم في نظر أنفسهم مسوخًا أجسادًا تتحرك بلا أي قيمة أو حتى تماثيل خشبية متشابهة متحركة بلا روح حقيقية تسعى وتفكر.
وانعكس هذا على أحاديث الناس في الفترة الأخيرة، بل أكسبهم ما سمّاه أستاذ الاجتماع اللبناني مصطفى حجازي بـ”الاكتئاب الوجودي” أي أنهم وُضعوا، رغمًا عنهم، تحت حالة نفسية شديدة السوء، وأُجبروا عليها، ولم يعد أمامهم فعل أي شيء، فلو فكروا في الاحتجاج عن السياسات نالوا من السلطة نصيبهم من القمع، وفي المقابل لا يستطيع التكيُّف أن ينتشلهم من يأسهم الوجودي.
كل هذه السياسات القمعية التي تمارسها السلطوية في مصر عكست ضعفها من خلال ممارسات أخرى لكنها تتفق معها بما أنها أيضًا ممارسات قمعية تهدر حقوق المواطنين المصريين فقد تكررت الحوادث التي يُقتل فيها مواطنون مصريون سواء خارج مصر أو داخلها على يد مواطنين خليجيين لا سيما سعوديين وتلقى هذه الحوادث صمتًا وتواطؤًا من الحكومة المصرية وأجهزتها القضائية ودبلوماسيتها الخارجية.
منذ أيام بسيطة قُتل مواطن مصري بمدينة الإسكندرية اسمه أحمد سعيد ويعمل عامل توصيل جرّاء سحله بواسطة سيارة يقودها مواطنان سعوديان وقد لاحق المواطنون المصريون السيارة وأجبروها على التوقف وقُبض عليهما لكن الغريب أن النيابة العامة المصرية لم تصدر أي بيانات تعطي تفاصيل عن الواقعة والصحافة المصرية، المسيطَر عليها من قبل جهاز المخابرات العامة على غير عادتها في تغطية أخبار الحوادث لم تلقِ بالًا أو اهتمامًا بتداول الحادثة وتفاصيلها.
هذا ليس جديدًا على السلطات المصرية أو وسائل إعلامها وصحافتها فقد شهدت السنوات الماضية حوادث قتل واعتقال لمواطنين مصريين داخل المملكة السعودية إذ اُعتقل الشاب أحمد ضيوف خلال عمله مع إحدى الدور المصرية في معرض الرياض الدولي عام 2022، وظل شهورًا داخل السجن حتى أُفرج عنه ولم تتحرك الدبلوماسية المصرية بشكل حقيقي وفعّال منذ اللحظة الأولى لإنقاذ الشاب أو حتى الوقوف على أسباب اعتقاله.
أيضًا اعتقلت السلطات السعودية مجموعة من المواطنين المصريين النوبيين وأصدرت بحقهم أحكامًا قضائية تصل إلى 18 عامًا بتُهم نشر أخبار زائفة،\ وتنظيم تجمع دون ترخيص ولم تتحرك الخارجية المصرية لتوضيح ماذا حدث ومحاولة حمايتهم من قمع السلطات السعودية.
هذا فضلًا عن حالات القتل التي تمّت بحقّ المصريين المغتربين العاملين في المملكة مثل مقتل الصيدلي المصري محمد يونس عام 2022 على يد امرأة سعودية، إثر عدم موافقته بيع الدواء لها دون وصفة طبيب، أو حادثة مقتل المدرّس المصري هاني عبد التواب عام 2020 على يد تلميذ سعودي بسبب درجات الامتحان، فضلًا عن حوادث أخرى لقتل العمالة المصرية بسبب الخلافات مع أصحاب العمل السعوديين.
لم يكتفِ القمع السلطوي للنظام المصري بحقّ الفئات التي تعارض سياساته، بل أدّت حاجته إلى التمويل الخليجي من قروض وودائع وشراء الأصول المصرية، إلى إنتاج سياسات خاضعة تجاه أنظمة الخليج، لا سيما السعودية والإمارات، فتجد إثر هذا الخضوع سياسة مصرية ضعيفة ولا مبالية ومستسلمة تجاه ما يتعرض له المصريون، سواء من حالات اعتداء واعتقال وقتل من قبل السعوديين، داخل مصر أو حتى وخارجها.
كما أتى هذا الخضوع على حساب المواطنين المصريين، فمن كل ناحية ومن أكثر من جهة يتعرض المواطن المصري لانتهاك حقه وكرامته وحريته من قبل أطراف مختلفة، وكأن المصري لن يفلت من إهدار حقه في كل وقت وأي مكان، لأن لا سلطة تعطيه حقه أو حتى تحميه في حالة تعرضه للاعتداء، بل كأن السلطة أعطت ضوءًا أخضر لسلطويات حكم أخرى تستبيح المواطن المصري.
المصدر: https://2h.ae/jkdr
حياة المصريين في 7 عقود.. كابوس الوظيفة والتعليم والصحة
تعبّر السبعون سنة الأخيرة منذ قيام ثورة يوليو 1952 عن مرحلة شديدة الخصوصية من تاريخ مصر الحديث تتميز بأن حكّامها من الظباط العسكريين السابقين في نظام جمهوري لذلك دائمًا ما تغري بالمقارنة، نظرًا إلى أن كل نظام حكمَ أورث الآخر في كثير من الأحيان كوارث وأزمات شكّلت آلية عمله وفي قليل من الأوقات إنجازات وفترات محدودة من الاستقرار.
وإذ كنا نريد أن نقارن بين كل حقبة وأخرى فلا بدَّ أن ننظر إلى حالة المواطن المصري ومحاولات نهضته وتنميته وسيكون النفاذ إلى تلك الزاوية التاريخية أفضل ما يكون من باب الاحتياجات الأساسية والدستورية وهي التعليم والصحة والوظيفة.
“التعليم.. من محو الأمية إلى أمية مقنّعة“
قُلّلت أهمية التعليم بالتزامن مع وقوع مصر تحت الاحتلال البريطاني عام 1882 وذلك بعدما كان واحدًا من أهم مميزات عصر التحديث في عهد محمد علي باشا (1805-1848) حيث اهتم البريطانيون في المقام الأول بتعليم موظفي الخدمة المدنية في المدارس التي تعتمد على اللغة الإنجليزية وأهملوا تعليم الجماهير إذ خفضت الإدارة الاستعمارية الإنفاق على التعليم وفرضت رسومًا دراسية على المدارس الابتدائية كما كان التعليم العالي مكلفًا ومقصورًا إلى حدّ كبير على النخب الميسورة.
كانت المادة 19 من دستور 1923 تنصّ على مجانية التعليم في مصر إلا أن التعليم المجاني والشامل في مصر لم يعتمَد إلا بحلول عام 1944 وقد أتيحت مجانية التعليم الثانوي والفني بقرار من وزير المعارف آنذاك طه حسين عام 1951 كانت تلك التوطئة التي أعقبها توسع الدولة في النظام التعليمي أعقاب قيام ثورة يوليو 1952 وسياساتها الاشتراكية التي طبّقها الرئيس جمال عبد الناصر الذي ورث شعبًا تبلغ نسبة الأمية فيه 75%.
استهدف عبد الناصر من توفير مجانية التعليم وتوظيف خريجي الجامعات في القطاع العام ومؤسساته توسيع قاعدة النظام الشعبية ومنع الاضطرابات الاجتماعية بين الشباب المتعلمين.
تلك السياسات انعكست على عدد المؤسسات التعليمية في مصر وبعد أن كان العدد 5 جامعات عام 1952 ارتفع ليصل إلى 12 جامعة بنهايات عام 1976 وزاد عدد طلاب التعليم العالي بأكثر من الضعف من 333 ألفًا و300 طالب إلى 480 ألفًا فترة 1971-1976.
لكن نتيجةً للنمو السكاني المرتفع في مصر أصبح ضمان التوظيف الحكومي غير محتمل إلى حد كبير وسرعان ما أدّى التعميم المتزايد للتعليم العالي إلى تدهور معايير الجودة في عهد الرئيس حسني مبارك.
في أعقاب حرب 1967 انحدرت مخصصات التعليم في ميزانية الدولة في نفس وقت ارتفاع الكثافة السكانية وكان هذا بداية التراجع في المنظومة التعليمية في مصر فقد كان التراجع واضحًا منذ أن اتجهت الدولة إلى سياسات الانفتاح في عهد الرئيس السادات حيث تقلصت مخصصات الإنفاق على التعليم ليعاد توجيهها إلى بنود ذات طبيعة أكثر استهلاكية وبدأت الدولة في تبنّي سياسة دفع التكلفة مقابل الخدمة والتي رأت أن التعليم سلعة تعرض في السوق.
كانت إجراءات الإصلاح الاقتصادي التي بدأ الرئيس مبارك تطبيقها عام 1991 في عهده بدعم من صندوق النقد الدولي، المعروفة باسم التكييف الهيكلي، مدخلًا رئيسيًا للسياسات النيوليبرالية التي ستتبعها الحكومة فيما بعد وحتى الآن فتقلصت مخصصات بنود أساسية مثل التعليم والصحة كما أن أجور المعلمين واصلت في التراجع وأصبح المعلم في مصر أضحوكة ورمزًا للجشع والدروس الخصوصية من أجل زيادة أمواله كما تصوّره مسلسلات وأفلام تلك الفترة.
تم اعتماد النظام التعليمي الخاص ليجاور التعليم الحكومي العام ويقلل من الضغط عليه وبين عامي 1996 و2006 ارتفع عدد الجامعات الخاصة من جامعة واحدة إلى 16 وفي عام 2023 وصلت إلى 27 جامعة خاصة إلى جوار 28 جامعة حكومية.
تدهور التعليم الحكومي وجاء التعليم الخاص كبديل إلى جانب البدائل الأكثر رفعة في المستوى التعليمي مثل المدارس الدولية الأجنبية الخاصة بطبقة الأغنياء فقط لذلك كانت هذه الإحصائيات في أقرب وقت من ثورة 25 يناير وأعقابها.
بينما كان أهم ما يميز الحقبة الناصرية كما يذكر المؤرخ جويل بنين أن الاشتراكية حسّنت حياة العمال في المؤسسات العامة والجهاز البيروقراطي للدولة حيث حصلوا على وظائف مستقرة ومزايا اجتماعية كالرعاية الصحية والمعاشات التقاعدية والتعليم المجاني الذي حصل عليه أطفالهم من رياض الأطفال إلى المستوى الجامعي وأبناء الفلاحين الذين حصلوا أيضًا على فرص أكبر بكثير في التعليم العالي.
وفي عام 2016 أظهر تقرير الوضع السكاني الذي أعدّته الأمم المتحدة بالاشتراك مع مؤسسات مصرية تراجع فلسفة التعليم للفقراء الذي تأسّست عليه شرعية نظام يوليو منذ البداية وتكشف بيانات المسح السكاني في مصر عام 2014 أن 57% من السكان الفقراء لم يذهبوا للمدرسة أو يكملوا المرحلة الإبتدائية مقابل 45% من غير الفقراء.
كانت المدارس الخاصة منفذًا لاستيعاب بديل لما تكتظ به المدارس والفصول الحكومية التي أصبحت رديئة الجودة كحال التعليم في مصر لكن في السنوات الأخيرة أثّر الوضع الاقتصادي على المصريين في الإنفاق على التعليم الخاص.
في عام 2012-2013 بلغ إنفاق الأسر على التعليم الحكومي نسبة 56% مقابل 38% للتعليم الخاص أما عام 2017-2018 بلغت نسبة التعليم الحكومي 68% مقابل الخاص 28% ما يعني أن الكثير من الأسر لم تعد تتحمل نفقات المدارس الخاصة، فنقلت أبناءها إلى المدارس الحكومية.
تلقي سلمى حسين في تقريرها عن “عشر حقائق عن الإنفاق عن التعليم في مصر” الأزمة التي تعاني منها الدولة في سياق الإنفاق على التعليم وتراجع مصر على مستوى المؤشرات العالمية، فرغم أن الحكومات المصرية كانت توجّه إلى التعليم المدرسي بأنواعه ما يوازي حوالي 5% من الدخل المحلي حتى عام 2021، فقد أصبحت مصر تعاني من نقص كبير في الإنفاق على التعليم، وبحسب البنك الدولي لم تعد الميزانية المخصصة للتعليم في مصر تتجاوز ثُلث النسبة التي تخصصها له الدول النامية في المتوسط.
وفي الوقت الحالي تظهر بيانات الموازنة العامة عدم استيفاء النسبة الدستورية المقررة لقطاع التعليم، ونجد أنه بينما تبلغ قيمة الناتج المحلي الإجمالي 12 تريليون جنيه، فإن الإنفاق على التعليم (قبل الجامعي والعالي) بحسب آخر موازنة للعام المالي 2023-2024 يبلغ حوالي 230 مليار جنيه فقط.
وبحساب نسبة مخصصات التعليم إلى الناتج المحلي يتضح أنها تمثل 1.72% فقط أي أقل بأكثر من 4% من النسبة المنصوص عليها في الدستور حيث كان من المفترض أن تبلغ الموازنة 710 مليار جنيه وهي نسبة الـ 6% المنصوص عليها دستوريًا.
وفي عام 2023، وصلت مصر إلى ما يقارب 61 ألف مدرسة في أنحاء الجمهورية المنوط بها أن تستوعب 25.5 مليون طالب، ويقيم عليها 955 ألف معلمًا، لكن يبدو أن هذا العدد ما زال غير كافٍ، كما أنه يعاني من غياب جودة التعليم، حيث إن 70% من الطلاب في سن العاشرة لا يستطيعون قراءة نص مناسب لأعمارهم وفهمه، كما يشير تقرير فقر التعلم الصادر عن البنك الدولي.
بالإضافة إلى ذلك تعاني ميزانية التعليم الضئيلة بالفعل خللًا في التوزيع في نصيب الطالب بالجنيه المصري الذي يبلغ متوسطه حوالي 5 آلاف و400 جنيه سنويًا -يبلغ نصيب الطالب من الإنفاق العامّ في الدول المتقدمة 11 ألفًا و200 دولار-.
كما أشارت سلمى في تقريرها إلى معاناة الطلاب في المحافظات الفقيرة مثل أسيوط والمنيا وسوهاج وقنا والفيوم من قلة الإنفاق المخصص لهم، بينما يرتفع نصيب الطالب في المحافظات قليلة السكان، فمثلًا نصيب الطلاب في محافظة كالمنيا يبلغ 4 آلاف جنيه مقابل 15 ألف جنيه في الوادي الجديد.
ويعدّ التعليم واحدًا من أساسيات الحياة التي تضررت بفعل الأزمة الاقتصادية، ففي أحد التقارير المنشورة عام 2023 اتضح أن معدل زيادة الأسعار في التعليم زاد بنسبة 7.7% ولفت التقرير أيضًا إلى أن الأسر الفقيرة يقلّ إنفاقها على التعليم كما أن نسب التحاق الإناث في الأسر الفقيرة أقل بكثير من نسب التحاق الذكور أي أن الفقر في مصر أصبح يؤثر على تعليم الإناث بالعموم، في عام 2021 بلغ معدل محو الأمية نسبة 87.18% وهي النسبة التي شكلت تراجعًا بنسبة 0.5% عن العام السابق له.
كما أن أولياء الأمور أصبحوا يتحملون عبء التعليم عوضًا عن الدولة كما يشير تقرير منصة “العدالة الاجتماعية” الذي درس حالة إنفاق أولياء الأمور على الدروس الخصوصية حيث تستنزف الدروس الخصوصية في العهد الحالي من إنفاق المصريين على التعليم ما تصل نسبته إلى 30% وفقًا لإحصاء الجهاز المركزي للتعبئة العامة من إجمالي إنفاق المصريين على التعليم الذي يتنوع بين “مصروفات ورسوم دراسية، مواصلات، ملابس وشنط، كتب”.
“الصحة.. السهم الذي عانق السماء ثم انكسر“
في عام 1946 نشر دكتور أرثر سيسيل كتابه الشهير “ساعة عدل واحدة” الذي يركز فيه على الوضع الصحي في مصر فترة 1937-1943 الصورة العامة التي يمكن الخلاص بها إلى أن المصريين كانوا مفتقدين للحدود الدنيا من الرعايا الصحية.
كما يذكر الكتاب كان يموت الطفل بمجرد فطامه بسبب نقص البروتين فكانت الأم التي تنجب 7 أطفال مثلًا لم يكن يتبقى لها سوى ثلاثة أو اثنين ويذكر سيسيل أن مصر كانت الثانية على العالم في هذا الوقت في معدل وفيات الأطفال كما أن البلد بصفة عامة كانت مرتعًا للكوليرا والإنيميا والبلهارسيا والطاعون والسل.
في كتاب Area handbook for Egypt الذي يقدمه مركز دعم القرار في الولايات المتحدة إلى العاملين من العسكريين والموظفين بالمنطقة، يتحدث الكاتب عن كون الصحة كانت مفصلية جدًّا في إضفاء الشرعية على نظام جمال عبد الناصر فمنذ عام 1952 كانت الحكومة تسعى جاهدة لتحسين الصحة العامة للسكان حتى أن الميثاق الوطني لعام 1962 نصَّ على أن الحق في الرعاية الصحية يأتي في المقام الأول من بين حقوق كل مواطن.
شهدت تلك الفترة زيادة نصيب الفرد من الإنفاق العام على الصحة بنسبة 500% بين عامَي 1952 و1976 كان ضمنها العديد من المشاريع التي أنجزتها الحكومة مثل برنامج التأمين الصحي بدءًا من عام 1959 والتوسع في إنشاء عدد المستشفيات والوحدات الصحية في القرى الذي وصل إلى 600 وحدة صحية عام 1960.
نتيجة لتلك الزيادة الهائلة كان متوسط عمر المواطن في عام 1990 أكثر صحة وأطول عمرًا من عمر المصري المتوقع في أوائل القرن العشرين ففي عام 1952 كان متوسط العمر المتوقع عند الولادة 39 عامًا، وارتفع إلى 59 عامًا للنساء و60 عامًا للرجال عام 1989.
كما أن معدل الوفيات الذي كان 24% عام 1952 انخفض إلى 10% عام 1990 وبالتبعية انخفض معدل وفيات الرضع بسبب برامج الرعاية والتطعيم ضد كافة الأمراض من 193 حالة وفاة من بين كل 1000 إلى 85 من كل 1000.
مثلًا كانت إحدى الحملات الهامة في الستينيات هي حملة التثقيف حول مخاطر استخدام المياة الراكدة ما قلّل نسبة الإصابة إلى النصف بمرض البلهارسيا بين عامَي 1935 و1966 تبعًا لكل ذلك، حدثت الطفرة الهائلة في عدد السكان وبعد أن كان العدد 20 مليونًا في عام 1952 نمى ليصل إلى 67 مليونًا عام 1991 وظلَّ آخذًا بالنمو حتى 106 ملايين تقريبًا في العام الحالي.
لم تؤثر سياسات السادات في تطبيق الانفتاح على مجال الصحة كثيرًا رغم تراجع الإنفاق والسماح بدخول شركات الأدوية الكبرى في السوق المصري لكن التأثر الحقيقي الذي فتح الأبواب للقطاع الصحي الخاص حدث بعد برنامج إعادة التكييف الهيكلي الذي فرضته سياسات مبارك عام 1991 والتي قلصت من بند الإنفاق على الصحة من الناتج المحلي الإجمالي وبإتاحة المجال للقطاع الخاص.
وقد حاولت الدولة في أكثر من مرة أن تخصخص خدماتها لكن فشلت بأحكام القضاء في إبطال العديد القرارات، مثل قرار أحمد نظيف عام 2007 بتحويل هيئة التأمين الصحي إلى شركة قابضة وقانون الشراكة بين القطاع الخاص والعام رقم 67 عام 2010.
وبعد ثورة 25 يناير أقرَّ المجلس العسكري الموازنة العامة للدولة والتي لم تشهد تغيرًا في ميزانية الصحة التي احتفظت بنسبة 4.5% من الموازنة العامة للدولة وكان هذا العام المالي 2012-2013 الذي يتوافق مع سنة حكم الرئيس مرسي لذلك لا يعدّ دوره في المجال الصحي مؤثرًا غير أنه وعد بزيادة مخصصات الصحة بنسبة 1.5% سنويًا لتصل بنهاية مدة رئاسته الأولى إلى 10% لكنها لم تكتمل.
استهدف الدستور المصري الجديد عام 2014 أن يزيد من نسبة الإنفاق على التعليم والصحة لتصل إلى نحو 10% خلال 3 سنوات من اعتماده دستورًا للبلاد وكان من المفترض أن تتوزع تلك النسب كالآتي:
يحظى التعليم على نسبة 6% من الناتج المحلي والصحة على نسبة 3% لكن بمرور 10 أعوام على عمر النظام القائم تبيّن أن الصحة كانت واحدة من أكبر ضحايا ما يسمّى بالإصلاحات الاقتصادية.
وفي السنوات الأخيرة أصبح لدى مصر أعلى نسبة من معدل الإصابة بفيروس سي في العالم بلغت 7% وكان واحد من مشاريع السيسي هو حملة “100 مليون صحة” والتي كُلّلت بالنجاح بفضل تخصيص تمويل 250 مليون دولار من البنك الدولي أتت بثمارها في إجراء فحص لـ 60 مليون مصري خلال عام واحد هو عام 2018 لكن نجاح المشروع لم يصاحبه نجاح عامّ في إدارة ملف الصحة في مصر وهو ما تشهد به نسبة الإنفاق من الناتج المحلي على مجال الصحة.
بداية من عام 2015 أخذت نسبة الإنفاق على الصحة بالتراجع الشديد وصولًا إلى عام 2020 وبسبب أزمة كوفيد-19 التي ضربت العام ارتفعت نسبة الإنفاق على الصحة لتصل إلى نسبة 1.50% عام 2022 والملاحظ أنه خلال فترة 2014-2022 وحتى في قمة الإنفاق الذي بلغ 1.81% عام 2015 لم تصل أبدًا نسبة الإنفاق إلى الحد الأدنى الدستوري.
يواصل القطاع الصحي إبداء مؤشرات أزيد على مسيرته نحو الهاوية ليصبح المواطن مهددًا بأن يفقد حق العلاج المجاني فقد أصدرت وزاة الصحة خلال السنوات الأخيرة تعديلات على لائحتها المنظِّمة للعمل بالمستشفيات والوحدات الصحية تفيد برفع أسعار الخدمات المقدمة وتقليص نسبة العلاج المجاني طمعًا في زيادة موارد قطاع الصحة في مصر الآخذة في التآكل بسبب انخفاض قيمة العملة المحلية.
بالإضافة إلى ذلك واصلت النسبة المخصصة للصحة من الإنتاج المحلي الإجمالي التراجع، ففي السنة المالية 2023-2024 لا تتخطى النسبة 1.25% من الناتج المحلي وكما هو الحال في مخصصات التعليم تتبع الحكومة المصرية عدة حيل لتضخيم مخصصات الصحة وزيادتها ورقيًا لتصل إلى النسب التي نصَّ عليها الدستور المصري.
على سبيل المثال يتم اعتبار الإنفاق على مياه الشرب والصرف الصحي ضمن الإنفاق على الصحة بالإضافة إلى تحميل قطاعَي التعليم والصحة نسبة من فوائد الديون الحكومية وهو ما رصده تقرير منصة “متصدقش”.
وتعدّ الفئات الفقيرة الأكثر تأثرًا من تراجع الإنفاق على تلك الخدمات فالمستشفيات الحكومية ليست هي القِبلة المناسبة للأغنياء وميسوري الدخل للعلاج الذين يتجه أغلبهم إلى المستشفيات الخاصة والعيادات الخاصة.
لقد كان قطاع الصحة من أكثر المجالات التي تضررت من آثار التضخم عام 2023 فرغم أن المستشفيات كانت تصرف علاجًا مجانيًا من صيدلياتها إلا أن الفقير يحتاج إلى أن يتوجه للصيدلية الخارجية أيضًا لاستكمال روشتة العلاج أو لشراء علاج أكثر فعالية.
فقد ارتفع التضخم في بند الرعاية الصحية بحسب أحد التقارير إلى 17% كما أن الرعاية الصحية تحتل المرتبة الثالثة في نفقات الأسر الأدنى دخلًا بنسبة 8.3% من نصيب الفرد من الإنفاق السنوي للأسرة. وبصفة عامة بلغ إنفاق المصريين على الصحة نسبة أعلى من إنفاق الحكومة ذاتها على القطاع الصحي الحكومي حيث بلغ إنفاق المصريين نسبة 59.31% على بند الصحة.
ورغم أن القطاع الصحي في مصر تنهض به من الأساس المستشفيات الخاصة التي تبلغ نسبتها 63% من عدد القطاع الصحي في مصر بين عامَي 2012 و2021 زادت النسبة السكانية في مصر 19% ولم تواكب تلك الزيادة زيادة في عدد المستشفيات العامة سوى بنسبة ضئيلة هي 3% بينما زادت المستشفيات الخاصة بنسبة 24% وانخفض عدد الأسرّة في المستشفيات العامة بنسبة 14% وارتفع في الخاصة بنسبة 35%.
ورغم كل تلك المؤشرات التي تشير إلى وجوب النهوض بالقطاع الصحي العام إلا أن الحكومة تتجه إلى التخارج من دورها في دعم الصحة رغم عدم دستورية تلك الخطوة وخصخصة نسبتها من قطاع الصحة في مصر.
وبعد قرار رفع أسعار الخدمات الصحية وافق مجلس النواب في مايو/ أيار الماضي على مشروع قانون قدمته الحكومة والمعروف بقانون “تأجير المستشفيات” بغرض إسناد إدارة المنشآت الصحية المملوكة للدولة للمستثمرين المصريين والأجانب كما صدق السيسي على القانون رغم اعتراض نقابة الأطباء والعديد من البرلمانيين والخبراء.
لا يحمل القانون أية ضمانات لاستمرار تقديم الخدمة شبه المجانية للمواطنين خاصة محدودي الدخل كما سيسمح بخروج عدد من المستشفيات الحكومية خارج منظومة التأمين الصحي ما يعني عدم إلزامها بالأسعار المرتبطة بالخدمة ما سيهدد الكثير من المستفيدين من تلك المنظومة شديدة الأهمية بالنسبة إلى شرائح ضخمة من السكان.
كما أن القانون لا يلزم المستثمر سوى بتشغيل نسبة لا تقل عن 25% من العاملين بالمستشفيات الذين كانوا فيها قبل شرائها والاستثمار فيها ما يعني تهديد الكثيرين بفقدان عملهم.
الوظيفة.. كيف انطفأ بريق تراب الميري؟
لقد كان همّ نظام عبد الناصر أن يوفر للمصريين ما أسماه “السعادة العائلية” كما يذكر شريف يونس في كتابه “نداء الشعب” وذلك المصطلح يعني تأمين قدرًا من تحسن مستوى المعيشة بمكافحة الغلاء ووسائل أخرى في إطار سعي أوسع يهدف إلى تحقيق نهضة اقتصادية وصناعية بالذات كان العمل بالذات هو الوحيد الذي يستطيع أن يكفل تلك المعيشة الكريمة لذلك كان عصر جمال عبد الناصر هو عصر الموظف والعامل في مشاريع الدولة.
منذ عام 1951 وكانت سياسة التوظيف تقوم على أُسُس انتقائية بحيث تكون التعيينات وامتيازات العمالة موجّهة لسدّ احتياجات الجهاز الإداري للدولة من القوى العاملة لكن ذلك الإجراء لم يكن كافيًا لاستيعاب الموظفين وتحديد امتيازاتهم على أساس مستوى شهاداتهم الدراسية.
لذلك في عهد عبد الناصر كانت سياسة تعيين الخريجين عنصرًا أصيلًا في النظام الاجتماعي الناصري كما يذكر محمد جاد في كتاب “متى ينتهي الغلاء في مصر؟” حيث قام ذلك النظام على أساسَين:
تثبيت الأسعار من خلال الدعم السلعي والتسعيرة الجبرية.
وتوفير الوظائف لشرائح واسعة من الطبقة المتوسطة في الكيانات التابعة للدولة.
لذلك كانت الدولة تقوم بتعيين كل الخريجين لتوسيع قاعدة النظام الشعبية وكسب الولاء السياسي ولم تكن ميزانية الإنفاق على الأجور عبئًا كبيرًا في عهد عبد الناصر فقد بلغت في العام الأخير من حكمه نسبة تتجاوز 15% من إجمالي نفقات الدولة.
لكن تلك الطريقة في إدارة ملف التوظيف سبّبت ترهلًا واكتفاءً فوق الحاجة في الوظائف وأثرت فيما بعد على نفقات الدولة ففي منتصف السبعينيات بينما كان المجتمع يموج ويتلظى تحت الغلاء وسياسة الباب المفتوح التي طبّقها السادات انتقدت حكومته منظومة البدلات الناصرية واعتبرتها بابًا خلفيًا لاهدار المال العام.
سنّت حكومة السادات قانونًا جديدًا رقم 47 لسنة 1978 كما يذكر جاد في كتابه، يهدف إلى اعتبار المؤهّل الدراسي مجرد شرط من شروط شغل الوظيفة إلى جانب شروط أخرى معه وبديلة عنه، وربط الأجر بالوظيفة ذاتها وليس بالحصول على مؤهّل دراسي معيّن.
لكن الحكومة في عهد السادات لم تتوقف بالفعل عن التعيين واستمرت في تعيين الخريجين في جهازها الإداري لكنها استطاعت فقط أن تطيل من مدة فترة سماح ما قبل تعيينات الخريجين إذ ارتفعت المدة بين التخرج من الجامعة والتعيين سنة 1984 إلى 3 سنوات ونصف، وفي عام 1987 إلى 5 سنوات.
في عهد مبارك ارتفعت نسبة الإنفاق على الأجور من إجمالي النفقات العامة كما يذكر سامر سليمان في كتابه “النظام القوي والدولة الضعيفة” حيث وصلت من 17% في بداية عهد مبارك إلى 23.4% عام 2000-2001.
لكن إلى جوار تلك الزيادات في عهد مبارك كانت هناك العديد من موجات التضخم أكبر كثيرًا من قدرة الزيادات في الأجر على المواكبة خاصة في منتصف الثمانينيات والتسعينيات لذلك يشير جاد في كتابه إلى أن العائد النهائي على الموظفين الحكوميين من وراء سياسات مبارك كان الخسارة فالقيمة الحقيقية لأجورهم ومستويات معيشتهم في نهاية التسعينيات كانت أقل من مستويات عام 1976-1977.
وعرف مبارك كسب الرضا من خلال تطبيق سياسة أخرى هي سياسة “العلاوة” التي اشتهر بالهتاف عليه بها من خلال العمال في عيد العمال سنويًا والعلاوة باختصار هي زيادة سنوية على الراتب وتؤخذ بعد 5 سنوات عن مجموع علاوات السنوات الخمس مجتمعة وفي سنة 1992 وصلت العلاوة السنوية إلى 20%.
يشير جاد إلى أن السنوات الخمس تلك كانت تتوافق مع سنوات الاستفتاء الرئاسي على مبارك وأنها لم تكن سوى وسيلة أخرى من كسب الشعبية وسط القطاع الأكبر من العمال.
ظلَّ نظام مبارك يحاول مقاومة التضخم من خلال العديد من الحوافز والزيادات التدريجية، لكنه لم يواكب أبدًا بين الأجور والتضخم، فبينما وصل الحد الأدنى للأجور عام 2011 إلى 710 جنيهات، كان العاملون في الدولة يطالبون أصلًا بـ 1200 جنيه كحدٍّ أدنى للأجور.
وفي عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي أصبح يُنظر إلى الموظف الحكومي على أنه جزء من العبء الاقتصادي على الحكومة لذلك لم يكن من المستغرب أن تعلن وزارة التخطيط عام 2017 عن خطتها التي تستهدف بحلول عام 2030 أن يكون هناك موظف لكل 40 مواطنًا بدلًا من الوضع القائم بموظف لكل 13 مواطنًا.
وبينما استطاعت ثورة يناير أن تزيد من تعيين مليون مواطن في القطاع الحكومي عام 2011-2012 قامت حكومة السيسي بتقليص القطاع مليون مواطن مماثل في فترة 2015-2017.
وفي ظلال خطة التقشف الحكومية كانت الحكومة قد أوصلت نسبة الأجور الحكومية في ميزانية 2017-2018 إلى أقل من 6% من الناتج المحلي الإجمالي وكان ذلك التراجع للعام الرابع على التوالي منذ تولّى السيسي رئاسة الجمهورية.
ومنذ العام 2017 لم تنشَر إحصائية جديدة من الجهاز المركزي للتعبئة عن عدد الموظفين بالقطاع الحكومي للدولة لكن في عام 2022 ذكر صالح الشيخ رئيس الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة في إحدى المداخلات البرامجية أن عدد ما تم حصره من موظفي الدولة حتى الآن هو 3 ملايين و231 ألفًا ويشكّل العاملون في القطاع العام عمومًا 20% من القوة العاملة في مصر.
قامت الحكومة في السنوات الأخيرة برفع الحد الأدنى للأجور في أكثر من مرة إلى أن وصل لـ 6 آلاف جنيه وهو الذي يزيد قليلًا عن 100 دولار في شهر أبريل/ نيسان الماضي ومع معدل تضخم وصل في ديسمبر/ كانون الأول 2023 إلى 35.2% لم تعد تلك الزيادات تسمن ولا تغني من جوع باستمرار معدلات الغلاء ورفع أسعار السلع الغذائية والمحروقات.
ذكر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أن الأسرة المكونة من 4 أفراد تحتاج إلى 3 آلاف و218 جنيهًا لتوفي باحتياجاتها الأساسية وكان ذلك عام 2020 حيث كان الدولار يتراوح بين 18 و19 جنيهًا والآن في عام 2024 وصل سعره إلى 48 جنيهًا.
لقد قال المصريون سابقًا “إن فاتك الميري -الوظيفة- اتمرغ في ترابه” كنوع من التقديس للوظيفة الحكومية وقدرتها على إضفاء الأمان المستقبلي والوجاهة الاجتماعية لصاحبها لكن في السنوات الأخيرة وتحت وطأة العديد من الإجراءات التقشفية القاسية وسياسة عدم تعيين موظفين جدد، والموظفين الحاليين أسعارهم ومعاشاتهم لا تناسب الحياة اليومية من الأساس يبدو أن ذلك المثل كعبرة وعظة قد راح إلى غير رجعة.
توضح تلك الرحلة بين الأرقام والإحصائيات عبر مسيرة 70 عامًا من التاريخ المصري المعاصر جزءًا من حياة المواطن المصري بين الأحلام والانهيارات ويمكن إجمالها فيما قاله “جلبير الأشقر” في كتابه “الشعب يريد” عن الميزة التنموية لمرحلة عقدَي الخمسينيات والسبعينيات قائلًا:
“الحقيقة التي لا مناص منها أن تنمية اقتصادياتنا لن تتم بالاتكال على الرأسمال الخاص بل تتطلب القطيعة مع النموذج النيوليبرالي وإعادة الدولة والقطاع العام إلى موقع قيادة التنمية وذلك بتسخير ثروات البلاد لهذا الهدف الرئيسي بواسطة الضريبة التصاعدية والتأميمات. كان للسياسات التنموية التي سادت المنطقة بدءًا من الخمسينيات حتى السبعينيات على علّاتها أثر إيجابي ونتائج اجتماعية أفضل بكثير من نتائج السياسات النيوليبرالية التي عقبتها، والمطلوب اليوم إنما هو العودة إلى ما كان تنمويًا في تلك التجارب بدون ما شابها من استبداد وفساد في حين أن الأنظمة التي تلتها قامت على التخلص من السياسات التنموية مع الإبقاء على الاستبداد والفساد بل مفاقمة الفساد إلى أقصى الحدود“.
المصدر: https://2h.ae/vSoq
الإفقار المُنظَّم للمواطن المصري..
خلال السنوات العشر الماضية عانى المواطن المصري من إفقار مستمرّ ومُنظّم. وهذا يعود إلى أنّ الإفقار أساساً نتيجةٌ طبيعةٌ لسياسات الحكومة المصرية نفسها التي يمكن وصفها بالسياسات التقشّفية. تلجأ دول كثيرة حول العالم في فترات مختلفة إلى تقليل الإنفاق على الخدمات التي تقدّمها إلى المواطنين كالتعليم والصحّة والمساعدات الاجتماعية من أجل الإنفاق على نواحٍ اقتصاديةٍ أخرى مثل تسديد الديون أو التركيز في الاستثمار في مشاريع جديدة وهو ما يُعرف بسياسات التقشّف التي تُلقي أعباءً ثقيلةً للغاية على المواطنين وفي رأسها تقليل الدعم والخدمات وهذا ما فعلته إلى حدّ ما الحكومة المصرية خلال آخر عشر سنوات.
مع صعود الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي إلى الحكم في عام 2014 قدّمت بعض الدول الخليجية مساعدات فورية ضخمة إلى مصر تُقدّر بعشرات مليارات الدولارات، واستمرّت في تقديم مساعدات إضافية حتّى وصل إجمالي ما قدّمته تلك الدول من مساعدات مختلفة إلى مصر حتّى عام 2023 إلى أكثر من مائة مليار دولار وفقاً لتقديرات وكالة أسوشييتد برس. ولكنّ هذه المساعدات لم تكن كافيةً وحدها لعلاج مشكلات الاقتصاد المصري المُزمِنة وفي مقدمتها:
- ضعف الإنتاجية
- والقدرة على التصدير
- وغياب قاعدة صناعية وإنتاجية قوية
- وضعف التنافسية الاقتصادية.
ومع استقرار السيسي في الحكم كان عليه تقديم حلولٍ للمشاكل السابقة كان أمام الرئيس المصري ثلاثة بدائل في الأقلّ:
- كان يمكن للسيسي بناء بنية اقتصادية جديدة تسمح لمصر بالانتقال إلى عصر السوق الحرّة والرأسمالية التنافسية، بعيداً من رأسمالية المحاسيب التي سادت خلال عهدَي أنور السادات وحسني مبارك.
- كان يمكن للرئيس المصري أن يعيد بناء البنية التشريعية في مصر مُعزّزاً دور المؤسّسات الرقابية ومُشجّعاً التنافسية ودور القطاع الخاص.
- وربّما فتح الباب لمشاركة بعض مؤسّسات الدولة نفسها في التنافس الاقتصادي الشفّاف لتحقيق أفضل نتائج اقتصادية لمصر وللمصريين ويعيب هذا التوجّه من وجهة نظر النظام المصري أنّه يفرض على الحكومة المصرية قدراً كبيراً من الشفافية وبناء المؤسّسات الرقابية المُستقلّة ويُعزّز دورَ القطاع الخاص ويقوم نسبياً بإعادة توزيع الثروة ومن ثمّ السلطة بشكل حرّ وتدريجي.
- ويبدو أنّ هذا التوجّه كان مُستبعَداً من الرئيس المصري ومن القوى الداعمة لنظامه، التي أرادت كعادة النظم التي حكمت مصر منذ 1952 تركيز الثروة والسلطة في يد مجموعة صغيرة مُقرَّبة من الحاكم يضمن ولاءها.
البديل الثاني كان الاستمرار في سياسةِ رأسماليةِ المحاسيب التي ورثها حسني مبارك عن أنور السادات، واستمرّ فيها ويُقصد برأسمالية المحاسيب هنا الاعتماد المتزايد على مجموعة من رجال الأعمال المُقرَّبين من السلطة الذين يُمنحون مزايا اقتصادية كبيرة في مقابل الولاء للنظام ودعمه. وتتمثّل تلك المزايا في الحصول على الأراضي والمشاريع الحكومية بأثمانٍ زهيدةٍ تُمكّنهم من تحقيق ثروات ضخمة. في المقابل يتنافس رجال الأعمال فيما بينهم لتحقيق أكبر قدر من الثروة ورفع معدّلات نمو الاقتصاد المصري، في عملية يديرها ويتحكّم بها النظام المصري.
ويبدو أنّ السيسي استبعد هذا الخيار أيضاً لأنّه شعر بحالة التنافس أو التصارع التي ساعدت في إنهاء عهد مبارك بين مراكز قوى متضاربة المصالح كالجيش من ناحية، ورجال أعمال مبارك من ناحية أخرى وبين رجال أعمال مبارك والحزب الوطني أحياناً وبين رجال الأعمال أنفسهم.
وربّما شعر الجيش والمؤسّسات الأمنية بعد يناير/ كانون الثاني 2011 أنّهم الطرف الأقوى في الدولة المصرية وأنّهم أحقّ الناس في الفوز بالثروة وليس بالسلطة فقط.
وهنا اختار السيسي خياراً ثالثاً عزّز صعود الرأسمالية العسكرية في مصر.
وتقول أحدث إحصاءات البنك المركزي المصري أنّ نصيب القطاع الخاص من الاستثمارات السنوية المنفّذة في مصر تراجع إلى نحو 25% فقط في عام 2022 وهو أقلّ مستوى على الإطلاق ونصف ما كان عليه في عام 2002 وأقلّ بكثير من أعلى مستوى وصل إليه في عهد مبارك إذ وصل حتّى 67% في عام 2007.
تراجُعُ نصيب القطاع الخاص من الاستثمارات المُنفّذة في مصر بشكل مستمرّ وكبير منذ 2014 يُعَدُّ من أبرز المُؤشّرات على سياسات الرئيس المصري وتفضيله إعادة توزيع الثروة والاعتماد بشكل متزايد على نخبة اقتصادية جديدة تأتي من المؤسّسات الأمنية، التي توسّعت في إنشاء الإمبراطوريات الاقتصادية.
فضّل السيسي سياسات اقتصادية جديدة تقوم على التوسّع في دور المؤسّسات الأمنية الاقتصادي والتوسّع كذلك في الاقتراض بشكل غير مسبوق للإنفاق على مشاريع جديدة ضخمة ترفع مُعدّلات النمو الاقتصادي.
خلال عهد السيسي تضاعف الدين الخارجي أربع مرّات كاملة ليصل إلى نحو 168 مليار دولار نهاية عام 2023، مقارنةً بحوالى 44 مليار دولار في 2014 فقط قبل أن يتراجع بفضل صفقة رأس الحكمة إلى 154 مليار دولار أميركي.
كذلك تضاعف الدين الداخلي بمُعدّلات مشابهة تقريباً ليصل إلى ثمانية ترليونات جنيه مصري.
وتضاعفت أيضاً مساحة الطرق المرصوفة في مصر وانطلقت عمليه بناء عدد كبير من المدن الجديدة وفي مقدّمتها العاصمة الإدارية الجديدة وعددٍ من مشاريع الطاقة باهظة التكاليف.
وبناءً عليه حقّقت الدولة المصرية مُعدّلات نمو مرتفعة نسبياً حتّى أزمة كورونا ولكنّه نمو كان قائماً على الاقتراض من الخارج في صور مختلفة ومن بينها الأموال الساخنة (استثمار الأجانب في أذون الخزانة المصرية بفوائد عالية تُعَدُّ من الأعلى عالمياً) والإنفاق على مشاريع غير إنتاجية وغير تصديرية كمشاريع البني التحتية والعقارات.
فرغم الإنفاق الضخم لبناء المدن الجديدة في مصر لم يتخطَّ حجمُ مبيعات المنازل لغير المقيمين في مصر أكثر من مليار دولار سنوياً وربّما يعود ذلك إلى ضعف البنية التشريعية والقانونية في مصر التي لا يُشجّع الأجانب على الاستقرار في مصر أو شراء المنازل فيها لو لم يكونوا مُضطرين، كحال بعض اللاجئين والهاربين من الحروب الذين استقرّوا في مصر أخيراً.
الإنفاق الكبير على تلك المشاريع والانفتاح على الديون، وضعف القدرة على التصدير حمّلت الدولة المصرية أعباءً هائلةً فكان لزاماً عليها توفير أموال إضافية لسداد الديون والإنفاق على المشاريع الضخمة. شملت عملية التقشّف صوراً عديدةً في مقدّمتها التخلّي عن بعض التزامات الدولة تجاه مواطنيها من خلال تعويم أو تخفيض سعر الجنيه المصري مرّات عدّة أمام الدولار منذ عام 2016 وتقليل فاتورة الدعم في حدودٍ غير مسبوقة، ورفع أسعار جميع السلع والخدمات الأساسية كالطاقة والمواصلات وتقليل إنفاق الدولة على التعليم والصحّة وغيرها من الخدمات التي تصل إلى المواطنين.
دخلت الدولة المصرية مرحلةً جديدةً وقاسيةً للغاية من رأسمالية الدولة تضاعف بسببها عدد المصريين تحت خطّ الفقر أو القريبين منه الذين يبلغ عددهم حالياً نحو 70 مليون مواطن مصري وربّما أكثر، وتراجع حجم الطبقة الوسطى المصرية، وزاد تركّز الثروة في مصر بشكل مستمرّ وغير مسبوق. فالنتيجة المنطقية لتلك الزيادات، أنّ الفقير بات بلا ثمنٍ، والعمالة الرخيصة باتت بلا ثمنٍ، والأغنياء باتوا أكثر قدرة على شراء أيّ شيء وبأقلّ الأثمان.
ضعفت قدرة الفقير في التفاوض على أجر أفضل وتراجع المُقابلُ الذي يحصل عليه نظير عمله.
وضاعف من مشاكل المصريين أنّ سياسات التقشّف لم تنجح في زيادة مُعدَّلات النمو بشكل مستمرّ وأدّت في النهاية إلى أزمات اقتصادية مُضاعَفة لأنّ إنفاق الدولة المصرية ذهب إلى مشاريع غير إنتاجية وغير تصديرية في الأساس.
وبسبب أزمة كورونا وحرب أوكرانيا أيضاً، ضعفت تدفّقات الأموال الأجنبية وهربت بعض الديون (الأموال الساخنة) حتّى دول الخليج ملّت من إرسال المساعدات، وبدأت تطلب مُقابلاً لأموالها (بيع أصول الدولة المصرية) وهو ما قاد منذ مارس/آذار 2022 إلى أزمةِ عُملةٍ طاحنةٍ أدّت إلى تراجع القدرة على الاستيراد، وإلى تخفيضٍ إضافي في قيمة العُملة المصرية وإلى ارتفاعٍ غير مسبوق في الأسعار ومُعدَّلات التضخّم، حتّى وصلت مُعدَّلات تضخّم أسعار الغذاء في مصر إلى أكثر من 70% في أواخر عام 2023 ولم تتمكّن مصر من حلّ أزمتها الاقتصادية من دون تدخّلٍ خارجي (صفقة رأس الحكمة، واتفاقية قرض جديد مع صندوق النقد الدولي وعودة الأموال الساخنة).
أما المواطن المصري فقد وجد نفسه على موعد جديد من رفع الأسعار وتقليل التضخّم طاولا هذه المرّة رغيف العيش نفسه الذي تضاعف سعره أربع مرّات دفعة واحدة، وطاولا أخيراً سعر البنزين والمواصلات بعد زيادات سابقة هذا العام في أسعار المواصلات والإنترنت والحديد وموادَّ أخرى.
وبهذا يجد المواطن المصري نفسه أمام دائرة كاملة من السياسات الاقتصادية التي تقودها الحكومة المصرية نفسها أدّت إلى إفقاره بشكل سريع وكبير وغير معهود خلال آخر عشر سنوات من دون نهاية في الأفق لحالة الإفقار المستمرّة والمُتعمَّدة.
وتعد الحكومة المواطن بعودة مُعدّلات التضخمّ لمستويات مقبولة نسبياً (10%) في نهاية عام 2025، وبأنّ مشكلة الدولار ستُحَلُّ عام 2030 وأنّ ثمار التنمية والمشاريع الاقتصادية ستصل إليه وإن تأخّرت، وأنّ الأوضاع الاقتصادية ما زالت صعبة، كما ذكر الرئيس المصري، في حديث له في 6 إبريل/نيسان الماضي مُذكّراً المصريين بأنّ سياساته هي محاولةٌ لبناء دولةٍ بعدما لم يجد دولةً في مصر حين وصوله إلى الحكم وأنّه لم يَعِد المصريين بشيء وأنّ المصريين هم من طالبوه بحكمهم.
أما الاقتصاد المصري فيعتمد حتّى هذه اللحظة على تدفّقات ضخمة من رؤوس الأموال تأتيه من الخارج في صورة تحويلات العاملين في الخارج (22-32 مليار دولار سنوياً) وعوائد السياحة وقناة السويس والاستثمارات الأجنبية والأموال الساخنة وكلّها عوامل عُرْضَةً للتقلّبات الدولية في منطقة مُضطربة.
في حين أنّ الزيادة في الصادرات غير البترولية لا ترتفع إلّا بمُعدَّلات بسيطة وإن كانت إيجابية ولكنّها لا تسعف في علاج أزمة الديون ونقص العُملة.
يعيش الاقتصاد المصري رهينةً للخارج ويعيش المواطن المصري رهينةً لأزمة الديون وما ارتبط بها من نقصٍ في العُملة الأجنبية وفي حالة إفقار غير مسبوقة لن تُحلَّ سريعاً داعياً الله ألّا تتدهور أكثر.
المصدر: https://2h.ae/QMxA