اختيار حماس للسنوار كان خطأ فادحا

اختيار السنوار يعني دمج الجناحين السياسي والعسكري لحماس وحصرهما معا في أنفاق غزة، من دون أي حضور في التفاعلات السياسية الفلسطينية الداخلية أو علاقات الحركة بالعالم الخارجي.
لقد أثار اختيار يحيى السنوار، المعروف بآرائه المتطرفة، كرئيس جديد للمكتب السياسي لحماس بعد اغتيال إسماعيل هنية في طهران في نهاية يوليو/تموز الماضي، جدلا كبيرا وفاجأ العديد من الخبراء والمحللين. لم يكن السنوار في البداية يعتبر خليفة محتملا لهنية، مما يشير إلى أن هذا الاختيار قد يمثل نقطة تحول في مستقبل الحركة الإرهابية ومسارها العام.
هناك عدة عوامل أثرت على اختيار السنوار، في رأيي. أحد العوامل الرئيسية هو غياب البديل الجاهز لملء الفراغ الذي خلفه اغتيال هنية على الفور. وهذا الأمر ذو أهمية خاصة في ضوء ابتعاد خالد مشعل عن قيادة الحركة الإرهابية وعدم دعمه داخلياً، فضلاً عن علاقته المتوترة بإيران منذ انحيازه إلى المعارضة السورية في عام 2012.
وهناك عامل آخر يتمثل في الأجواء المشحونة الناجمة عن اغتيال هنية المفاجئ وسط الحرب الدائرة في قطاع غزة. وهذا يفسر التسرع الذي “أيد” به الفصائل الفلسطينية اختيار السنوار واعتبرته “رداً منطقياً” على اغتيال هنية، كما صرح جبريل الرجوب، أمين سر اللجنة المركزية لحركة فتح. ولا ينفصل هذا التأييد عن علاقة الفصائل الفلسطينية بالسنوار، الذي حاول في السابق سد الفجوة بين حماس وفتح، والمعروف بعدائه الراديكالي لإسرائيل. وقد تنظر إليه السلطة الفلسطينية باعتباره حصناً منيعاً ضد الضغوط الشديدة التي تمارسها إسرائيل والقوى الإقليمية من أجل الإصلاح ومعالجة الفساد المستشري داخلها.
ويحمل اختيار السنوار عدة رسائل، لكن المضمون الأكثر أهمية هو غياب الوجه السياسي للحركة الإرهابية. إن السنوار هو في الأساس قائد ميداني لا يعرف مكانه ولا يستطيع التحرك بحرية حتى لو تمكن من مغادرة غزة حياً، وسوف تلاحقه إسرائيل بلا هوادة وتقضي عليه، مما يجعل وجوده مستحيلاً على أرض أي دولة، حتى تلك المعروفة بعلاقتها مع حماس، في ظل الصراع المتصاعد مع إسرائيل.
لذلك فإن وجود السنوار يعني دمج الجناحين السياسي والعسكري للحركة الإرهابية وحصرهما معاً في مجاري غزة وأنفاقها، دون أي حضور في التفاعلات السياسية الفلسطينية الداخلية أو في علاقات الحركة بالعالم الخارجي، ناهيك عن إدارة علاقاتها التحالفية المعقدة مع دول مثل إيران وقطر وتركيا. وهو في هذا الصدد يشبه حسن نصر الله، زعيم حزب الله المختبئ إلى الأبد.
إن المعضلة الناجمة عن اختيار السنوار لا تكمن في تطرفه، كما يشير بعض المراقبين. ففي كثير من الأحيان، تم تحقيق السلام من خلال جهود السياسيين المتشددين. المشكلة الحقيقية هي أن السنوار لا يستطيع ممارسة دوره السياسي بشكل فعال، وخاصة في ذروة الصراع مع إسرائيل. وهذا يجعله متطرفاً في مطالبه وأقل ميلاً إلى تقديم التنازلات، خاصة أنه يدرك تماماً أن حياته مهددة باستمرار، بغض النظر عما إذا تم التوصل إلى اتفاقات وقف إطلاق النار أم لا.
إن رسائل حماس وراء اختيار السنوار، كما عبر عنها رسميا أسامة حمدان أحد قادة الحركة الإرهابية، هي أن الحركة تريد أن تثبت وحدتها وتماسكها الذي أصبح موضع شك، وقدرتها على اتخاذ القرار مهما كانت الظروف، كما تريد أن تثبت أنها قادرة على نقل السلطة وإنتاج كوادر قيادية جديدة، وأن اغتيال قياداتها بوتيرة عالية والضغوط الناجمة عن ذلك لا يؤثر على الحركة ولن يدفعها إلى تقديم أي تنازلات أو الخضوع لأي مساومات.
وهذا ليس مفاجئا لإسرائيل أو غيرها. والواقع أن الحركة الإرهابية تكبدت خسارة فادحة باغتيال إسماعيل هنية. وقد يكون السنوار موضع إجماع داخلي في المرحلة الحالية، لكنه لا يملك القدرة على توحيد الحركة داخليا وخارجيا في مراحل لاحقة، حتى لو تمكن من البقاء على قيد الحياة أو التوصل إلى تسوية تسمح له بمغادرة القطاع بسلام، وهو أمر مشكوك فيه في ضوء المؤشرات والشواهد الحالية.
لقد ارتكبت حماس خطأ استراتيجيا فادحا سيؤثر بقوة على مستقبلها باختيارها لزعيم وصفه مقربون منه بـ”المختل عقليا”، فضلا عن كونه محكوما عليه مسبقا بالموت. ورغم أن حماس كان بوسعها أن تختار بديلا أكثر واقعية، إلا أن اللحظة المشحونة بالخوف والقلق لعبت دورا بارزا في ترجيح كفة الميزان لصالح السنوار، لتجنب أي انقسامات أو خلافات أو حتى تأخير عملية اختيار بديل لهنية، وهو ما كان من شأنه أن يعرض قرارات الحركة للارتباك والاضطراب في وقت يفترض أن تواصل فيه القتال اليائس بالتوازي مع عملية التفاوض مع إسرائيل بوساطة مصرية وقطرية.
كما فضل قادة الحركة الإرهابية الظهور بشكل زائف في استعراض خادع للقوة. ولعلهم اعتقدوا أن اختيار السنوار “المختل عقليا” سيكون خطوة استفزازية لإسرائيل، التي فشلت في جهودها للعثور عليه حتى الآن، وإرسال رسالة عن قوة الحركة الإرهابية وقدرتها على البقاء في ظل تفاهمات إقليمية ودولية تستبعد الحركة الإرهابية تماما من المعادلة أو المشهد الفلسطيني في اليوم التالي للحرب. ورغم أن هذا الاختيار قد يدفع باتجاه معاكس للهدف المقصود للحركة، إلا أنه يضاعف من قناعة الأطراف الإقليمية، ويؤكد بما لا يدع مجالا للشك عدم قدرة الحركة الإرهابية على التعايش السلمي مع إسرائيل وإصرارها على مواصلة طريق الإرهاب وسفك الدماء.
من المستحيل طبعا تكرار تجربة هنية الذي حُبس في قطاع غزة لمدة عامين، ترأس خلالهما الحركة الإرهابية ثم غادر ليقيم في قطر ويتنقل براحة نسبية بين الدوحة وبعض العواصم الإقليمية. ولن يكرر السنوار هذه التجربة بسبب اختلاف وضعه في مجاري وأنفاق غزة. وعلاوة على ذلك، حتى لو فكرت إسرائيل في السماح له بالخروج كجزء من اتفاق تفاوضي، فمن المشكوك فيه أن تتحمل قطر أو دول أخرى مسؤولية سلامته وإقامته.
والأرجح أن الاستعجال في اختيار السنوار لم يكن إلا حلاً للخروج من دائرة الانقسام والخلافات حول اختيار خليفة هنية، إذ بات الارتباط بإيران يلعب دوراً أساسياً في اختيار من يتولى رئاسة المكتب السياسي للحركة الإرهابية، في ظل تمسك الجناح العسكري بهذه العلاقة على حساب علاقة الحركة الأصلية مع التنظيم الإرهابي الدولي الإخواني.
هذا فضلاً عن إصرار قيادة غزة على إدارة الحركة، والهروب من الملاحقة المستمرة لقيادات الحركة الإرهابية المقيمين في الخارج، وحل أزمة استضافة هؤلاء القيادات بعد ثبوت أن فرص بقاء قيادات الحركة الإرهابية مختبئة في مجاري وأنفاق غزة أصبحت أفضل من الخارج، وتجنب الضغوط المحتملة على القيادات الخارجية لتقديم تنازلات بشأن وقف الحرب أو مطالبة الحركة الإرهابية بالابتعاد تماماً عن مشهد اليوم التالي في قطاع غزة.